رؤيا الفراغ ... حياة تستكمل ذاتها في كلمة

تم نشره السبت 03rd نيسان / أبريل 2010 12:50 مساءً
رؤيا الفراغ ... حياة تستكمل ذاتها في كلمة
شيرين القطاونة

تنطق المسافات ووتتضاعف عندما يتعلق الامر بدراسة لتداخلات ما بين السطور و الحروف، تطال كل الفاظ الحقيقة المجردة لعملاق كان الادب طوق حفر وابرز تفاصيله من حضارة تبعدنا، ولكنها تناجينا، و وترغمنا للدخول في حالة الحب والهذيان لشخوص رواياته،.

هذا هو يوكيو ميشما الاديب الياباني الذي لطالما اعتبر خليطا فيه عدة نكهات من الجنون والحذر والتجرد المطلق وصولا للتمام في مجمل طروحاته الادبية التي حملت حس الذات تماما لدرجة النطق، فقد استلهم ميشما التجارب الانفعالية الناتجة عن الازمات لتكون بداية لحقيقة مجردة لا تخلو الا من تناغمات الالم الحقيقي.

وتصفه الكاتبة مارغريت يوسنار في كتابها (ميشيما او رؤيا الفراغ) بقولها "يظهر ميشيما، نصف عار، معصوب الرأس بالوشاح التقليدي، شاهراً سيف (كندو) مصوباً نحو بطنه النصل الذي سيخرقها يوما ما ".

وفي البوم الصور الفوتوغرافية الذي عرض بعد وفاته بعنوان( تعذيب بواسطة الزهور) يبدو ميشيما في معظمها وهو يتلقى ضروباً مختلفة من الموت، تارة غارقاً في الوحل الذي لابد ان يكون بمثابة رمز، واخرى مدهوساً بسيارة حمل كبيرة، او منتحراً على طريقة (سبوكو).

لقد كان هذا الكاتب الياباني المولود في طوكيوعام " 1925 " مزيجا بين ما هو عادي وما هو غريب، في روايته الاولى "التعطش للحب " مثلا تظهر المرأة عنده تلك الانثى المحرومة والتواقة للحظة امان، عبر رحلة طويلة وممتدة من اللحظات المجنونة، التي تنتهي وتنهارعلى صدر البستاني العاري رقصا في حفل تقليدي، لحظات يصورها بانها اقسى من الموت وارق من الحياة، لتنتقل وتكون امرأة شبه خرافية تظهر في نهاية الخريف من نسج اساطير بعيدة في "خيول هاربة " لتكون المرأة عند يوكيو جدارية تسترسل على جدرانها كل مشاعر الوجع والندم واللذه المحرمة وغير المباحة الا في تجردات الخيال ليس الا.

وفيها يتابع بطله الذي يبدي استعداداً وحماساً مفرطاً للموت في سبيل افكاره، وفي النهاية يقدم باصرار على قتل نفسه، وفي الرواية ذاتها تقوم مجموعة الساموراي المتمردة بالانتحار الجماعي، بعد ان منيت بالهزيمة على يد القوات النظامية، حيث شرع ثمانون من الناجين منهم، باقامة الشعائر التقليدية للانتحار، ما حدا بالجنود الذين كانوا يطاردونهم الى التباطؤ في ملاحقتهم كيما يمنحوا لهم الوقت الكافي للانتحار فوق قمة الجبل.

في هذه الاثناء يختار ميشما هذا الهذيان الملفت، والناتج عن المجهود الجسدي والتعب والعرق وبهجة الاختلاط ، عندما اختار ان يشارك في احد المواكب الاحتفالية وان يضع عصابة الجبين التي يرتديها عادة حملة الاكفان المقدسة.

وفي احىد صوره يبدو فتيا ولو لمرة واحدة، ضاحكا، ومرتديا "كيمونو " قميصا قطنيا يكشف عن صدره شأن رفاقه من حملة الاكفان ذات القدسية.

وقد تأثر ميشما بـ "شيميزو " و "هوجرا ياسودا " رائدي المدرسة الرومانسية اليابانية، كما تعود اساليبه وافكاره المؤثرة التي تناول فيها اخلاق وقيم الجيل الضائع ليابان مابعد الحرب، اذ جسدت معظم رواياته وقصصه بصور رائعة، مشاعر القنوط والحيرة، التي كانت سائدة بين كثير من اليابانيين منذ زمن الحرب لكن الملفت في ادب ميشيما في اعمال عديدة الانتحارات بطريقة الـ( سبوكو) ففي روايته (اعترافات قناع) التي تمثل سيرته الذاتية، نتلمس فيها تقبله منذ فتوته لفكرة الموت المبكر، بالانتحار.

ومن خلال مجمل كتاباته ومسارات حياته يتضح اقتناعه شيئاً فشيئاً في التصميم على الموت، بطريقة احتفالية، كما كان يفعل ابطال اليابان القديمة الذين يتعمدون الموت في دروعهم التي هي من حديد او فولاذ بعد اعتناقه لفلسفة الساموراي الانتحاريين، الذين شاعت مؤلفاتهم مثل كتاب (هاغاكور) الشهير الذي استلهم تراث الساموراي في القرن الثامن عشر، والذي يدعو في وصاياه الى التآلف مع الموت، ومواجهته بشجاعة وثبات ( مت بالفكر كل صباح، فلن تعود تخاف الموت)، كما ان ميشيما بقي يهيئ لموته الاحتفالي لعدة اعوام، ولما اعد العدة لكل شيء وبات جاهزاً، حدد يوم 25 تشرين الثاني عام 1970، وفي هذا اليوم كان يمارس حياته الاعتيادية حيث قام بتسليم الناشر الجزء الاخير من روايته الثلاثية، بعد ان استحم وحلق ذقنه بعناية، في الصباح الباكر، ثم ارتدى بزته النظامية(لجماعة كبش الفداء)، انها عاداته اليومية، لكنها في ذلك الصباح اكتسبت رهبة ما، وقبل مغادرة مكتبه، ترك على الطاولة قصاصة ورق كتب عليها (حياة البشر قصيرة، لكني اود ان احيا الى الابد) وبعيد انتحاره، قال رئيس الوزراء (لقد كان معتوها، ووالد ميشيما كان قد تلقى الخبر الاول من المذياع، وكان رد فعله هو(كم سيسبب لي من متاعب) اما زوجته (يوكو) فقد تلقت الخبر في الثانية عشرة وعشرين دقيقة ظهراً، قالت (انها كانت تتوقع ماحدث ولكن ليس قبل سنة او سنتين، لكن الاقوال المؤثرة قالتها والدته اثناء استقبال المعزين (لاتشفقوا عليه، لاول مرة في حياته فعل ما كان يرغب) ما يذكر ميشيما نفسه حين كتب ذات مرة في عام 1969 (عندما استرجع الاعوام الخمسة والعشرين المنصرمة، تمتلكني الدهشة من الفراغ الذي كان يسودها، اكاد لا استطيع ان اقول انني عشت....

shereen_jour2002@yahoo.com




مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات