مجلات علمية وهمية تتربص بالباحثين
المدينة نيوز - شكلت "مبادرة بودابست للوصول المفتوح" سنة 2001 منعطفا حاسما في تاريخ النشر العلمي حيث كان لها الفضل، حسب المتتبعين للشأن الأكاديمي، في ظهور عدد كبير من المجلات العلمية غير الربحية بديلا للممارسة الاحتكارية لكبريات دور النشر.
غير أن هذه المبادرة التي وقع عليها بالعاصمة المجرية ما يفوق 6000 باحث وأكثر من 800 منظمة مهتمة عبر العالم، تواجه اليوم صعوبات جمة لم يكن أحد يتوقعها في خضم نشوة الانتصار الذي سجلته هذه المبادرة على كبار الناشرين.
فالمبدأ الذي بنيت على أساسه ويقضي بمساهمة الباحث في تحمل مصاريف نشر مقالته وبالتالي تحقيق مجانية وصول الجامعات والطلبة للمجلات البديلة، تستغله بعض الجهات للنصب على الباحثين. فكيف يوقع هؤلاء بضحاياهم وما السبيل لاكتشافهم واتقاء شرهم؟
استراتيجيات شيطانية
ترتكز استراتيجية هذه العينة من الناشرين الذين يعرفون اليوم باسم "الناشرين المفترسين"، على خطط معدة بعناية فائقة، تنطلق باختيارها لاسم ذي رنة عالمية من قبيل "المجلة الأوروبية لعلوم كذا..." أو "المجلة السويسرية للأبحاث في...".
بعد ذلك تشرع في تقفي أثار "فرائسها"، موظفة في سبيل ذلك شبكة من "مخبريها" الذين يمدونها بأسماء باحثين من قوائم التسجيل في الندوات أو من خلال المواقع الإلكترونية للجامعات، لتستفرد بكل واحد منهم عبر رسائل إلكترونية شخصية مصوغة بعناية.
ويبدي صاحب المجلة في رسالته اهتماما زائدا بأطروحة الباحث، مثلا لأنها تعالج حسب زعمه موضوعا غاية في الأهمية يستحق النشر، وما على الباحث إلا تحضير مقالة في الموضوع وإرسالها للمجلة، دون أن ينسى -وهذا هو بيت القصيد- القيام بتحويل بنكي لفائدة الناشر تتراوح قيمته حسب كل مجلة بين 100 و200 دولار أميركي.
ولكي لا يترك للباحث أي فرصة للتفكير أو التردد يبشره الناشر بأن موعد صدور العدد المقبل من نشرته لن يتجاوز أسبوعين على أكثر تقدير بعد أن تقوم لجنة المراجعة، الوهمية طبعا، بتدقيق المقالة كإجراء روتيني لا أكثر.
وبعد التنفيذ التدريجي لكل مراحل هذه الاستراتيجية الشيطانية تكون كل قدرات التشكك والتحري لدى الباحث قد تعطلت في انتظار أن يستفيق بعد فوات الأوان على وقع الصدمة، فماله ومقالته أرسلا إلى مجلة غير موجودة أصلا أو لا قيمة علمية لها إن وجدت.
التوعية
ولأن الضحايا يتساقطون تباعا تطوعت عدة جهات لمحاصرة هذا السرطان الذي ينخر الجسم العلمي، منها "الجمعية الكندية للمكتبات البحثية" التي تساهم بإمكاناتها المتواضعة في توعية الباحثين.
وتنصح هذه الجمعية الباحثين بضرورة تتبع بعض الإجراءات الاحترازية للتعرف على هذا النوع من النشرات، مثل التحري في مصدر الدعوات المتوصل بها على البريد الإلكتروني وعدم تصديق كل عبارات الإطراء غير المبررة التي سيتلقونها من مخاطبيهم.
كما تنبه الجمعية الباحثين إلى ضرورة مقارنة الأسماء الرنانة التي تحملها هذه المجلات (مثل الكندية أو البريطانية...) مع اسم نطاق بريدها الإلكتروني الذي قد يكون لدول ليس لها مساهمة علمية.
وتحذر الجمعية أيضا جمهور الباحثين من مغبة تصديق اللغة الاستعراضية لرسالة صاحب المجلة الذي قد يدعي توفر نشرته على "معامل تأثير عال" أو "معدل إشعاع"، وهي كلها عبارات لها كامل مقومات الدعاية الكاذبة.
الفوضى الخلاقة
إلى جانب هذه الجمعية الكندية النشيطة، هناك مبادرات أخرى تحظى باستحسان الوسط العلمي، من بينها تلك التي يتزعمها "جيفري بيل" الجامعي المتخصص في علم المكتبات بجامعة كولورادو بـ"دينفر".
فقد خصص هذا المنافح الشرس عن نزاهة البحث العلمي موقعا إلكترونيا يحمل اسم "سكولارلي أوبن آكسيس"، لمتابعة ممتهني الاحتيال باسم النشر العلمي لضبطهم والتشهير بهم.
فرغم حداثة تجربته التي انطلقت سنة 2009، ساهم "جيفري بيل" وفريقه بإمكانياتهم الخاصة في فضح آلاف "المجلات المفترسة" التي تضطر إما لتغيير أسمائها للتمويه أو الدخول في سبات شتوي طويل حتى ينساها فريق موقع "سكولارلي".
وينبه "بيل" الباحثين إلى أن زيارة موقعه للاطلاع على "لائحة الناشرين" قد يجنبهم الكثير من المتاعب.
غير أن المتتبعين يتساءلون اليوم إن كانت هذه المبادرات وغيرها ستصمد طويلا أمام هذه المعضلة المتعاظمة التي لا يظهر لها أي حل في الأفق القريب. فلا يستبعد بعضهم أن يكون أصل الداء داخل الجسم العلمي نفسه الذي يعج بالمتواطئين مع كبريات دور النشر التي تبقى المستفيد الأكبر من "الفوضى الخلاقة" السائدة في هذا المجال.
ويذهب بعض المختصين أبعد من ذلك، ليوجهوا الاتهام مباشرة للشركات العملاقة للنشر العلمي التي قد تكون، حسب رأيهم، هي من أطلق يد "ناشرين مفترسين" على جمهور العلماء، حتى تبقى هي الملاذ الآمن الذي يأوي إليه كل باحث.