الدين خيارنا الواعي

تم نشره الأربعاء 07 تشرين الأوّل / أكتوبر 2015 12:52 صباحاً
الدين خيارنا الواعي
د. ديمة طارق طهبوب

قرأت تعليقا مطولا على الفيس بوك مؤخرا لمن يقدمون أنفسهم كنخبة مثقفة، ويطالبون بعلمنة الدولة وإلغاء الشريعة، وقد خبرنا ما يسمى بالنخب المترهلة على امتداد الخارطة العربية؛ حيث رسبوا في امتحانات القيم والحقوق الإنسانية رسوبا ذريعا، وانحازوا في أغلبهم للانظمة السلطوية والاستبدادية مقابل صفقات ومصالح شخصية، وفي التعليق ينتقد الكاتب الأردني الذي يعمل في مؤسسة خليجية إعلامية تتصدر ماكينة الإسفاف والتدجين والخذلان للعرب، الإسلاميين وينعتهم بالجهل والرتابة وترديد ما تعلموه في كتاب المحفوظات في المدارس دون ثقافة ولا دراية في اللغة او الصحافة! والقارئ لمجمل ما يكتبه هذا الكاتب يرى خطا واضحا ممنهجا في عداء الدين والانتقاص من كل ما ومن ينتمي اليه!

ومثل هؤلاء الكتاب يرون انهم بقراءة كتابين او كتابة كلمتين او صعود منبرين او١٥ دقيقة من الشهرة نالوها قد بلغوا المنتهى واصبحوا بموقع التنظير للناس والفلسفة، وتسفيه دين وقيم الآخرين في إرهاب وتشنج فكري لا يقل عن تشنج واختطاف وتشويه للقيم والاديان من الجماعات المتطرفة واتخاذها مطية تركب للمصالح!

هذا الكاتب «ابن امبارح» وغيره ممن يسمون أنفسهم بعلماني الأردن ويستحدثون صفحات ومواقع للتواصل والتجميع وكسب التأييد، لم يطلعوا على تاريخ الأردن ليعرفوا كم هو الدين ضارب جذوره في هذا البلد، وكم من رجالات الوطن وعلمائه وقادته هم من رجال الدين بالمفهوم الشرعي او من المتدينين المخلصين ممن خدموا البلاد والعباد بعلومهم المختلفة، وهم يرون النجاح والاحسان في تخصصاتهم عبادة بقدر الصلاة والصيام.

هؤلاء المثقفون ورثوا الدين بشهادة الميلاد فلم يعرفوا معنى ان تعتنق الدين بوعي وإدراك عند اكتمال نضجك العقلي، وكأنك تدخل في الاسلام مرة أخرى، ولكن هذه المرة باختيارك أنت لا باختيار أبويك لك، اختيار واع عن سبق إصرار وفهم وبصيرة يؤيد ويصدق اختيار الفطرة الأول للأهل، هذا الاختيار الذي جاء بعد قراءة ودراسة ومعاينة وتطبيق رأى في الاسلام دينا للحياة لا فقط للمسجد، دينا يأمرك أن تستكمل عدة المختبر كما تجهز سجادة الصلاة.

هؤلاء المثقفون المستلبون الذين ذابوا في ثقافات الآخر يظنون ان الاسلاميين ما زالوا في قاع القفة، لا يعرفون الا ما بين دفتي المصحف وأوراق الصحيحين، ولا يعلمون أن من أخذ هذين بحقهما وفهم عنهما فقد أخذ وقود الانطلاق ومناعة التحصين ليطوف ما بين الأرض والسماء، ولا يمتنع عن الحكمة ايا كان مصدرها.

لا يعلم هؤلاء المثقفون أننا قرأنا الإنجيل في عهديه القديم والجديد فوجدنا اكتمالا في القرآن وهو العهد الأخير الذي أخذ علينا موثق الايمان والحب للرسل أجمعين؛ فجاء إحسان التعامل مع إخواننا في الوطن من النصارى مصداقا لذلك العهد.

لا يعلم هؤلاء المثقفون أننا درسنا أرسطو وأفلاطون وسقراط فما وجدنا فلسفة أشد مثالية ولا أكثر نفعا للمجتمع من الفارابي وابن رشد ومالك بن نبي.

لا يعلم هؤلاء المثقفون أننا قرأنا كتاب رأس المال والأمير ونظريات ماركس وانجلز وفرويد وجان جاك روسووفولتير ودانتي وسيمون دي بوافار جنبا الى جنب مع إنتاج ابن القيم والغزالي وبنت الشاطئ وقطب والندوي والغنوشي؛ فعرفنا أن مجتمعا تسلطت عليه الانظمة الكنسية وعادت العلم والعلماء وقسمت الناس الى نبلاء وخدم وارستقراط وفقراء ليس كمجتمع أمر كتابه ودينه بتكريم العقل والعلم وفتح باب الاجتهاد، وتقديم أصحاب الكفاءة وتأمين العيش الكريم والمساواة بين الناس، عرفنا عدم حاجتنا لاستيراد علمانية جلبت على أوروبا ويلات أخلاقية واجتماعية جعلتها في آخر مراحلها تشرعن الشذوذ وتعترف به كنمط طبيعي من أنماط الحياة!

لقد طوفنا في البلاد فما وجدنا في أصالة الشام ورونق بغداد ولا قدسية القدس ولا جلال الحرمين، ولا تاريخ القاهرة وصدق شوقي اذ قال:

دع عنك روما وآثينا وما حوتا

كل اليواقيت في بغداد والتوم

غير أن المصاب فينا وفي بلداننا التي جعلت حواضر العالم تتقدم علينا، ما قاله تميم في بردته:

يا سيدي يا رسول الله يا سندي

هذا العراق وهذا الشام قد فقدا

وانقضت الروم والافرنج تنهبها

ففي الفرات لهم خيل وفي بردى

وقسمونا كما شاؤوا فلو دخلوا

ما بين شقي نواة التمر ما اتحدا

لنا ملوك بلا دين اذا عبروا

في جنة أصبحت من شؤمهم جردا

أنيابهم في ذوي الارحام ناشبة

وللأعادي ابتسام يظهر الدردا

وأنتم أيها المثقفون كما تدعون ما أنتم الا أذناب لهذا الاستعمار الذي ارتحل وعاد أقوى مما ارتحل في أفكاركم وصوركم، حتى أصبحتم وكلاءه يحاربنا بكم من داخلنا بانتقاص ديننا وثقافتنا وقيمنا، فننقسم ونتشظى من الداخل بالانقضاض على عوامل مناعتنا الباقية في الدين والقيم؛ فنصبح كما أصبح آباؤنا لقمة سائغة بيد استعمار سيقسمنا مزقا نترحم فيها على التقسيم أيام أجدادنا!

ليس الإسلامييون أغرارا في الثقافة او التجربة او الارتحال او معايشة الآخر؛ بل بعضهم ما زال مواطنا في الدول الغربية ولكن الفرق بيننا وبين الأدعياء المعروفين بالنخب أننا تعرضنا لكل ما يخالف تكويننا الفطري السليم وعقيدتنا؛ فخرجنا من الامتحان بسلام، تعايشنا مع المختلف دون ان نذوب فيه، أخذنا أفضل ما عنده وأعطيناه دون ان يستلب شخوصنا، تغبرنا ولم نغترب، تعلمنا ولم نعتنق، غصنا الى العمق ولم نتكفِ بالقشور على السطح، رأينا السراب فعرفناه فلم يزغلل أعيننا، عرفنا ان لدينا تراثا متفوقا قابلا للإحياء فلم نبحث عن الفتات على طاولات الغير.

لم نهبط على الدين هبوطا اضطرايا بالوراثة، ولم نتبعه دروشة ولا بحثا عن امتلاء روحي فقط، ولا وضعناه خانة تملأ الوثائق الرسمية، ولا انتسبنا له لكسب سمعة اورفعة.

لقد اعتنقناه عن قناعة ووعي وإدراك وتحمل لمسؤوليته واستعدادا للتضحية من أجل رسالته، لقد اعتنقناه اعتناق العالم والعارف المجرب الممحص الذي رأى فيه خيارا وحيدا لاعمار الدنيا، لإسعاد العالمين أجمعين.

ان كنت أيها الكاتب لم تقابل في حياتك الا جهلة ما استطاعوا ان يؤدوا لهذا الدين السفارة التي يستحقها، فانظر إذن أي المجالس تجلس فيها ومن تخالط، أما الاسلامييون الذين أعرف في الأردن وخارجها فسادة في العلم والأدب والذوق وحسن الطرح، ونحن لا نبعد أحدا عن مجلسنا فاطلبنا تجدنا نفض عليك من الأدب الكلاسيكي الى أدب النهضة الى الرومانسي والقرن العشرين، ثم نتطهر سويا في دوحة المتنبي والأندلسيين وبرد العشاق والمتصوفة ونغوص في نظريات التربية والسياسة وعلم الاجتماع.

يا هذا ليس كل الطير يؤكل لحمه، ولكننا نعرض عن الرد ففي الأمة أمور تشغلنا عن قيل وقال، واهتمامنا بها أولى.

(السبيل 2015-10-07)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات