الدبلوماسي و ... بائعة السمك
بينما كنت أقرأ الخبر الذي نشر عن السفير الفلسطيني في صربيا والذي يقال أنه يتاجر بأبناء شعبه عن طريق تسهيل هجرتهم مقابل بيع تأشيرات دخولهم مستغلا علاقاته مع الجهات الرسمية هناك، عادت بي الذاكرة " المزعجة " لحوالي ربع قرن من الزمان ! .
تواجدت للدراسة في العاصمة البولندية وارسو بداية التسعينات من القرن الماضي ، وفي بولندا التي صدَّرَت لنا قادة صهاينة مثل شامير وبيغن وآباء قادة مثل تسيبي ليفني ونفتالي بينيت وغيرهم ، يجب أن تشك في أي شخص تقابله على أنه يهودي قبل أن يثبت لك غير ذلك ! .
كان يسكن بجواري مجموعة من الطلبة البولنديين الذين كانوا دائما يجادلون بأن العربي رجل متسلط ، وغلب عليهم التفكير بأن كل عربي هو بالضرورة " سي السيد " الذي يتزوج أربع نساء ويتصرف مثل هارون الرشيد ! ، و كنت دائما ما أدافع عن كل العرب وأنفي التهمة لا جملة بل تفصيلا ! .
وفي يوم من الأيام فاجأني أحدهم بجريدة أسبوعية تسمى " إكسبرس فيتشورني " كان مانشيتها العريض في ذلك الأسبوع كالتالي " عالمة اجتماع سورية تكتب رسالتها للحصول على الدكتوراة في علم الاجتماع و موضوعها أسباب الطلاق في سوريا ، وأنها قالت : الرجل العربي يعامل زوجته مثل حيوان أليف أو أحد الأواني المنزلية ! ، السبب الرئيسي للطلاق هو ضرب الزوجات ! ، كل الأزواج : أطباء ، مهندسون ، محامون ، أساتذة جامعيون و فلاحون ضربوا زوجاتهم ! " . وفي تفاصيل الخبر أن مندوب وكالة رويترز للأنباء حضر مناقشة رسالة الدكتورة آمال عبد الرحيم من جامعة دمشق وكان "شاهدا "على ذلك ! .
كان ذلك يوما أسودا في حياتي هناك ، إذ شعرت بالقهر والغبن والظلم وشدة الدعاية الصهيونية وغياب دور سفاراتنا وإعلامنا ، وسألت نفسي ماذا عساي أن أفعل ؟! .
وبعد تفكير قررت ببساطة كتابة رسالة للدكتورة المذكورة قلت فيها : نسبت الصحيفة المذكورة لكم كذا وكذا ، فإن كان ما نسب إليكم صحيحا فلا داعي للرد وسأبقى في إحباطي ، وإن كان ملفقا ، فأرجو الرد وأنا سأرى ما يمكن فعله ! .
جاء الرد منها بعد شهر تقريبا كما توقعت :" لم أقل ذلك " .نعم كتبت عن أسباب الطلاق في سوريا ولجأت لسجلات المحاكم لأوثق الأسباب ، وكان ضرب الزوجات أحد أسباب الطلاق وتركز ذلك بين الطبقات غير المتعلمة " ! ، ومن خلال ما كتبت لاحظت مدى السخط الذي انتابها لمعرفة التزوير الذي حدث على لسانها ولمست في كلماتها حرصا شديدا على تصحيح الخبر وغيرة شديدة على دينها وعروبتها مما زادني رغبة في متابعة الموضوع .
هنا اتصلت بالجريدة وأخذت موعدا مع رئيس التحرير والذي كان اسمه يومها " أنجي بايوريك "، ومن إسم عائلته دخل عندي شك كبير أنه من " أولاد عمي" وفعلا كان يوم اللقاء .
تدخل مكتبه وتفاجأ بالعلم الإسرائيلي فوق رأسه !!! . استقبال ولا أروع ! .اهتمام وفضول بمعرفة سبب الزيارة ولا أشد .
ماذا لديك ؟، سألني ! قلت : نشرتم خبرا كاذبا في العدد كذا ولدي الدليل من الكاتبة نفسها ! ، فقال : وكيف أعرف إن كان كلامك صحيحا ورسالتها باللغة العربية ! ، أريد اتصالا مباشرا بالكاتبة أسألها وتجيبني باللغة الإنجليزية و إن ثبت ما تقول ، سننشر اعتذارا لها و شكرا لك في عددنا القادم .
وقد حصل فعلا أن اتصلوا بالكاتبة وتأكدوا من حقيقة الموضوع وتم بالفعل نشر الاعتذار مع توجيه الشكر لي على اهتمامي بينما نام أصحاب "الاختصاص".
الدكتورة آمال عبد الرحيم كانت تعمل أستاذة في جامعة دمشق وهي الآن وعلى حد علمي تعمل أستاذة وباحثة في جامعة الملك سعود في الرياض ، وقد كان لبحثها المذكور صدىً دوليا ، وكتب عنه الكثيرون بعضه لازم الصواب ومعظمه جانبه .
لتفهم الفرق ، فقد قابلت ملحقا ثقافيا في سفارة عربية بعد ذلك وسألني معلقا على الموضوع ضاحكا : " شو أجاك" ؟!!!!، ثم أضاف بأنه قرأ الخبر الأول ولم يُعِره اهتماما لأنه يعتقد أن "الدعاية الصهيونية قوية ضدنا ، وماذا عسانا أن نفعل " ؟! ، وأنه قرأ الاعتذار فيما بعد وعرف بأني " تبع مشاكل " .
بعد عدة أشهر صادفت ذلك " الدبلوماسي" يغازل بائعة السمك في السوبرماركت المجاور، وتعمدت السلام عليه من دون أن أساله " شو أجاك " لعلمي أن ما سيأتيه " أهم وأعظم" !!! ، ثم انصرفت بعيدا لا لشدة رائحة السمك و إنما لشدة اشمئزازي من ثقافة " الثقافي " ! ! ! و يا دار ما دخلك ... سمك .