إقليم «الخنادق البرزاني» أو.. دولة الأمر الواقع «الكردستانية»!
يَهرب مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان العراق المُنتهِية ولايته والرافض التخلي عن منصبه، مُعطِلاً اجتماع برلمان الإقليم ومُصِراً على أن يتم التمديد له أو اللجوء إلى انتخابات رئاسية يُشارِك فيها (رغم ان لا حقّ دستورياً له بعد انتهاء فترتي ولايته)، دافعاً الأمور في الإقليم إلى مزيد من الاستعصاء والتعقيد، مُستغِلاً سيطرته على مؤسسات وأجهزة نافذة في الإقليم، مُتحدياً أغلبية ,إن لم نقُل «كل» المكونات السياسية والحزبية في الإقليم، مُتذرِعاً على الدوام بالأزمات التي تعصِف بالمنطقة وخصوصاً محاربة داعش والتصدي لها، بعد أن نجحت قوات البيشمركة الكردية العراقية, في دفع داعش الى الانكفاء وخصوصاً بعد تحرير قضاء سنجار، حيث سارع برزاني الى ضمه للإقليم, تماماً كما فعل عندما بسط سيطرته على مدينة كركوك (المُتنازَع عليها كما يجب التذكير) مُستفيداً من انهيار الجيش العراقي وسقوط الموصل في يد داعش يوم العاشر من حزيران 2014.
نقول: يهرب برزاني إلى الأمام دائماً، كي لا يواجه الاستحقاقات السياسية والتزام قواعد اللعبة الديمقراطية التي يدّعي انه تم تكريسها في تجربة إقليم كردستان الممتدة منذ العام 1993 حتى الآن، رغم ما شابها من احتراب داخلي بين أبرز تنظيمين كرديين يتنازعان السيطرة والنفوذ والتمثيل في ذلك الإقليم، ونقصد الحزب الديمقراطي الذي يُهيمن عليه آل برزاني بالوراثة المُمتدة بين الأب (الملاّ مصطفى) والأبناء ولاحقاً الأحفاد، والآخر الذي خرج من رحم الحزب نفسه ولكن بخطاب ومرجعيات مختلفة ( حدود التمرد) على كل ما شكّله آل برزاني من «أبويّة» على الجمهور الكردي بدعوى انهم هم «مفجرو الثورة» وقادتها, الذين اعادوا الاعتبار للكرد وحقوقهم المشروعة في تقرير المصير، منذ التجربة الفاشلة، التي تم وأدها والتي مثلتها «جمهورية مهاباد» التي لم تُعمِّر طويلاً.
هذه المرة... لجأ برزاني إلى إحاطة إقليم كردستان بـ «خندق» طويل ومعقّد، يصل الى «1050» كيلومتراً يمتد من المعبر الحدودي المُسمّى «ربيعة» الرابط بين العراق وسوريا غرباً حتى الحدود الإيرانية شرقاً، ضاماً داخله مناطق عديدة مُتنازع عليها، تقف في مقدمتها مدينة كركوك، وما ادراك ما تتوفر عليه هذه المدينة المُختلطة والتي خصّتها المادة «140» من الدستور العراقي بضرورة اجراء استفتاء شعبي فيها لمعرفة رأي سكانها من العرب والكرد والتركمان والآشوريين وغيرهم من الأعراق، في ما إذا كانوا يريدون الاستمرار في تبعيتهم الادارية الى الحكومة المركزية في بغداد، أم لديهم الرغبة في ان يكونوا جزءاً من إقليم كردستان في اطار صيغة «الحكم الذاتي» الذي تربطه مع الحكومة المركزية، وليس الاستقلال النهائي.
هل قلنا الاستقلال؟
نعم، اذ يصعب الآن وفي ظل الخطوات المتسارعة التي يواصل برزاني اتخاذها–رغم الأزمة السياسية التي تعصف بالاقليم والتوتر بل التدهور الذي يشوب علاقاته مع الاحزاب الاربعة المُمثَلة في برلمان الاقليم–سواء في التغطية حدود التواطؤ مع حكومة اردوغان واختلاق الاعذار والمبررات له, كي يواصل ارساله قواته العسكرية الى داخل العراق واستقرارها في معسكر بعشيقة بذريعة تدريب قوات البيشمركة الكردية تارة, وطوراً في التصدي لداعش وفبركة انباء (غير صحيحة) عن هجوم شنه داعش على معسكر بعشيقة، ردته القوات التركية الغازية.
وكي يفرض برزاني–كعادته–السياسة التي واصل انتهاجها منذ بسط هيمنته على إربيل وراح يوّسع مجالها حتى اصطدم بنفوذ منافسه جلال طالباني وقوات حزبه (الاتحاد الوطني الكردستاني) ونعني سياسة «الأمر الواقع»، فإنه الآن وبعد تهديدات مُتكررة وتصريحات صحفية مُستَفِزة حددت العام 2016 موعداً لإعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فانه ارسى عطاءً لشركة فرنسية لترسيم الحدود (مع المناطق التي تتولاها القوات المركزية في بغداد) لِحَفر خندق عرضه ثلاثة أمتار كما يصل عمقه الى ثلاثة امتار ايضاً، ضاماً داخله شمالاً وغرباً مدينة كركوك وقضاء طوزخورماتو، بذريعة منع داعش من استخدام السيارات المُفخَخة في فضاء الاقليم وايضاً للحؤول دونه (داعش) وتسلل انتحاريين من اعضائه للقيام بعمليات في الاقليم.
ذرائع كهذه تبدو مُتهافتة ومكشوفة ليس فقط في انها غير مُقنعة عسكرياً (ما بالك عن توقيتها) وانما ايضاً في ان داعش لا يتواجد على طول هذا الخندق البالغ الطول (ما يزيد عن الالف كيلومتر بخمسين) بل ينحصر تواجده في منطقة ضيقة آخذة في التقلص سريعاً على ضوء ما تحرزه قوات «سوريا الديمقراطية» المتواجدة الآن على تخوم عاصمة داعش (مدينة الرقة السورية) بعد ان ألحقت به هزائم مُنكرَة بمساعدة فاعلة من سلاح الجو الروسي.
من نافل القول، اعادة التذكير بأن طموح مسعود برزاني للظهور بمظهر «الأب المؤسس» لأول دولة كردية مستقلة بعد سبعة عقود من اجهاض تجربة «جمهورية مهاباد»، سيكون اقرب الى المقامرة منه الى اي شيء آخر، فالظروف الدولية وخصوصاً الاقليمية, لم تنضج بعد لصيغة ترسيم حدود جديدة بديلاً من تلك التي سادت طوال قرن من الزمان والمخاض الذي تعيشه كل من سوريا وخصوصاً العراق... لن يكون سهلاً، فضلاً عن انه سيكون مخاضاً طويلاً وعسيراً، ولن تنفع الوعود «الشفوية» وخصوصاً المنافقة التي يبذلها اردوغان لحليفه «المؤقت» برزاني في هذا الشأن، ناهيك عن ان الاميركيين على وجه التحديد, هم اول من خَذَلَ وسيخذل الكرد مرّة اخرى، دون ان نتحدث عن رد فعل حكومة بغداد المركزية ومكوناتها السياسية ورأي اهالي كركوك، فضلاً عن ايران وسوريا ودائماً شرائح الكرد السياسية والاجتماعية في مناطقهم الأخرى، التركية، الايرانية والسورية.
سياسة «الأمر الواقع» التي يسعى برزاني الى فرضها على المشهد الاقليمي, محكومة بالفشل والانهيار وستكون المسمار الاخير في نعش مستقبله السياسي... طال الزمن ام قَصُر.
(الرأي 2016-01-13)