قصتي مع "ديوان الرقابة والتفتيش الإداري "

تم نشره الخميس 03rd حزيران / يونيو 2010 01:52 صباحاً
قصتي مع "ديوان الرقابة والتفتيش الإداري "
جلال الخوالدة

في ليلة من ليالي عام 1991، رأيت سيارة حكومية تحمل عائلة كاملة، وتسير بسرعة جنونية على الطريق الصحراوي، فكتبت مقالا ناريا حول الرقابة على الدوائر الحكومية، وعن الفساد الذي يبدأ بالسائق ولا ينتهي برئيس الحكومة، فغضب سكرتير التحرير، وأنبني وقال لي أن رئيس الحكومة أنبل ألف مرة من كلماتك هذه، فقلت له : أنني أتحدث بشكل إعتباري، وهو شخصية إعتبارية وقبوله اي نوع من الفساد في حكومته أو تجاوز يعني اشتراكه فيها، فنظر إلي بحقد، ومزق المقال ورماه في "الزبالة " بعيد عنكو..

بعد أقل من شهر، وبالصدفة العمياء، أتيح لي التحدث لمدة عشر ثوان مع دولة الأمير زيد بن شاكر، رحمه الله، فقلت له عن حادثة السائق المتجول في سيارة الحكومة، فابتسم وقال: طيب شو نساوي، قلت له عندي مشروع لهذا الموضوع، قال ارسله لي إلى مكتبي..

كتبت مشروعا لإنشاء دائرة سرية، لا استطيع في هذه العجالة شرحها لكنها بإختصار فكرة شركة كبرى، مرخصة وتمارس نشاطا تجاريا وبعض أعمال المقاولات والهندسة والعطاءات وتهتم في العمل مع المؤسسات الحكومية، بحيث تكون على تواصل دائم معهم جميعا، لكن فريقها مؤهل بشكل كاف لرصد كل تجاوزات المؤسسات الحكومية، رصدا دقيقا، وكتابة تقرير إلى رئيس الشركة الذي عليه أن يلخص ملاحظاته ويمررها إلى مكتب رئيس الوزراء بشكل سري، ليس بقصد محاسبة الناس بقدر ما هو محاولة للتصحيح اليومي، والبقاء على إتصال مع كل المستجدات التي تظهر فيها التجاوزات والمحسوبيات والواسطات والرشاوي وتقديم مواطن على مواطن والتعيينات، ومبحثا للرئيس في إجتماعه مع وزراءه، للتدقيق في سير العمل اليومي، الأكثر اهمية، والذي يؤسس أن يشعر الجميع أن الرئيس يتابع الوزراء، والوزراء يتابعون الموظفين، وكل شي واضح وعلى الطاولة يوم بيوم.

وضعت المشروع في ملف أحمر اللون ثم في مغلف مغلق من جميع الجوانب، ومررت ببيت صديقي المخرج خالد الطريفي، وقلت له عن الموضوع، ليكون شاهدي على هذا التاريخ، ثم ذهبت لمكتب الرئيس في الدوار الرابع، ومع محاولات مستميتة (من الجميع) لفتح المغلف، إلا أنني قمت بتهديدهم وذكرت لهم أن دولة الرئيس طلب أن لا يطلع أحد على الموضوع، وقمت بتسليمه لمكتبه وغادرت..

خلال عام كامل، لم أسمع شيئا فظننت ان الموضوع قد تم وضعه في " الزبالة " بعيد عنكو، ولومت نفسي على هذه الفكرة الغبية، وراحت الأيام..

في نهاية العام 1992، أو بداية عام 1993، كنت اعمل سكرتيرا لتحرير إحدى الصحف، فإذا بأمي، الله يطول عمرها، تتصل بي وتقول: شو عامل يا ولد. قلت لها خير، قالت، اتصل واحد بيقول أنه رئيس الوزرا بدو اياك تروح على مكتبه هسه هسه، لا حول ولا قوة إلا بالله، قلت لها جواز سفري منتهي، ويبدو أنهم قرروا محاسبتي على كل "عمايلي السودا " اليوم، فقالت "والله ما انا عارفة يمّا، دير بالك على حالك... "

أغلقت سماعة التفون، وذهبت مباشرة إلى منزل المخرج خالد الطريفي، في أم أذينة، وقلت له عما حدث، فقال لي: إذهب، فقد يكون حول موضوع مشروعك إياه، قوي قلبك...

وصلت إلى مكتب الرئيس، فقالوا لي أن الرئيس، الأمير زيد بن شاكر، رحمه الله، قد اوعز ان تذهب إلى مبنى مجاور داخل الرئاسة، وتسأل عن الدكتور محمد الذنيبات، فذهبت، وحين وصلت هناك، قام "الذنيبات " بإدخالي إلى مكتب متواضع، وأجلسني إلى جواره وعرفني بسرعة على ضيوفه المتواجدين آنذاك، أمين عام ديوان المحاسبة وامين عام ديوان الخدمة المدنية، وراح يكمل مكالمة هاتفية، تبين أنها من شخص مقرب يبارك له بالمنصب الجديد، ويعزمه على غدا في السلط، طبعا فهمت أنه... منسف.

لم أفهم شيئا حتى قال لي أن دولة الرئيس هو الذي أصدر أمرا للإتصال معي، لأنني صاحب فكرة هذا المشروع، فقلت له أي مشروع، فقال: ديوان الرقابة والتفتيش الإداري...فضحكت بشدة لدرجة محرجة لكل من كان هناك، فتجاوز سخريتي على مضض، وسألني: وما هي الشهادة التي تحملها؟ قلت له: برمجة وتحليل أنظمة، فقال: إذن سنقوم بتأسيس قسم للبرمجة وتعمل فيه، هذا حقك الطبيعي، لأنك صاحب الفكرة ولابد أن تكون جزءا من الفريق...

قمت فورا، وقام الدكتور ولحقني وسأل : أين تذهب، هل ستذهب للرئيس، قلت: لا، لن أذهب إلى أي مكان، فانا لا ابحث عن وظيفة، ولا أجيد غير عملي الصحفي، وأنني لم أقدم هذا المشروع لأحظى بمركز وظيفي، ولا أظن أبدا ان هناك علاقة بين مشروعي ومشروعكم... وأرجو أن لا تغضب مني.. فبهذه الطريقة مشروعكم مهدد بالفشل.. فلم يسمع ما قلت وكان مهتما أن يسألني مرة أخرى: إذا كنت تريد مقابلة الرئيس فسنذهب سويا...، هل تريد أن تذهب للرئيس؟!! قلت له والدمعة تفر من عيني: لا ابدا. وغادرت.

ذهبت والدموع ما زالت تترقرق في عيني إلى صديقي خالد، فقام وصنع لي "نسكافيه " بدون سكر، وراح يطيب خاطري بكلماته الرقيقة، ويقول: إنتا عملت اللي عليك... وكل عام وإنتا بخير.

اليوم تقترب ذكرى العشرين عاما على مشروع مراقبة الأداء الحكومي، ومتابعة الفساد، وملاحقة المستهترين، منذ اول إنتخابات تشريعية في البلاد، إنها ذكرى التصحيح السياسي الذي لم يحظ بفرصة تصحيح إقتصادي جذري وحقيقي، مع أن التصحيح السياسي يا سادة يا كرام ، ليس له أية قيمة، ولا في "حلم الليل "، بدون نفض البلاد وترتيب أولوياتها الأساسية وعلى رأسها الرقابة الصارمة للأداء الحكومي، وكذلك مراقبة كل صغيرة وكبيرة حتى تاتي اللحظة التي يعود فيها الجميع يشعر بالمسؤولية وتصبح جزءا من منظومة الشخصية والسلوك.

ولمن يتابع القصة، فقد تبين لي أن المرحوم الأمير زيد بن شاكر لم يهمل الموضوع منذ بدايته، بل دفع به إلى اللجنة الملكية المكلفة بصياغة الميثاق الوطني والتي أوصت بإنشاء هيئة مستقلة تتولى التفتيش الإداري ومراقبة الإدارة دون أن يترتب على إنشائها أي مساس باستقلال القضاء واختصاصاته، ولكن الديوان، فيما بعد، تم إلغاءه، فشعرت بسعادة حقيقية، فقد علمت بأنه قد أصبح عبئا على الدولة والشعب والخزينة.. بلا نتائج ملموسة.

اليوم، والحمدلله لدينا هيئة لمكافحة الفساد، وأظن أنها تقوم بواجبها على أكمل وجه، ولكن بسبب الأعمال الكثيرة الملقاة على عاتقها، فإنهم مشغولين بالقضايا الهامة والكبيرة، التي تحتاج فعلا لعناية مركزة، وهي بذلك ليست رقابة يومية على الترهل والمحسوبيات والواسطات التي تنخر في عظام الجسم الحكومي حتى النخاع، ولن أطيل عليكم أكثر، ولكنني أجريت،قبل سنوات، دراسة واحدة أثناء إعداد برنامج حديث الناس، وتبين أن اكثر من 80% من مراجعي الدوائر الحكومية يقوم بالإتصال مع "الواسطة " قبل أن يصل إلى بوابة المؤسسة المعنية، على حساب من..، من...، على حساب الـ 20 % الملتزمة بالمراجعة النظامية .... مش حرام؟!!!



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات