المجلة الثقافية في عددها الأخير

المدينة نيوز - خصصّت المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة الأردنية، عددها الأخير لموضوع بالغ الأهمية هو "الرواية والأمة "، استئناساً بكتاب الناقد الإنجليزي باتريك بريندر، الذي يحمل العنوان ذاته، والذي قام بترجمته الدكتور محمد عصفور وبنشره المجلس القومي للترجمة في القاهرة. وتحية لهذا الكتاب الموسوعي العميق، منظوراً وتناولاً. فقد عالج هذا الناقد اللامع موضوعاً مركّباً، يجمع بين الرواية والتاريخ والمتخيّل الاجتماعي، ويشتق من هذه المادة دلالات ثقافية وأيديولوجية ولغوية.
ومما تجب الإشارة إليه أن بريندر قد خص المجلة الثقافية بدراسة عن موضوعه، احتراماً لها، أضاء الناقد، في مداخلته، كتابه بشكل جديد، وفتح أفقاً جديداً له. لا غرابة أن تتضمن المجلة تعليقاً عن الكتاب كتبه الروائي جمال ناجي، قدم شرحاً له لا ابتسار فيه، وإضاءات عديدة تسعف القارئ في تناوله. وحول الموضوع المركزي، أي "الرواية والأمة " قدم جملة من الباحثين العرب دراسات مختلفة في الموضوع والمقاربة، مثل فيصل درّاج وعبد الله ابراهيم والروائي السوري نبيل سليمان، إضافة إلى حوار هام مع الروائي المصري جمال الغيطاني.
آثر المشرفون على المجلة توجيه تحية للناقد المصري الراحل د. علي الراعي، فنشروا مدخل دراسته المرموقة عن الرواية العربية وهو المجد للرواية العربية. والعنوان لا مبالغة فيه بسبب الدور الذي قامت به، ولا تزال، الرواية العربية، من حيث هي جنس كتابي يبحث ويكشف ويحتج وينقد، مندداً بكل أشكال الاغتراب، الصادرة عن قمع اجتماعي متعدد الوجوه، وداعياً إلى حياة تؤمن حقوق المواطنة. وما يجعل دراسة د. الراعي جديرة بالقراءة ليس كثافتها ودقة ملاحظاتها فقط، بل لكونها التمست أمثلة روائية من العالم العربي كله.
وإذا كان الناقد المصري الراحل، قد قرأ الرواية العربية في تكامل مواضيعها، فقد آثر الناقد الفلسطيني أن يكشف عن العلاقة بين الرواية وأحلام الأمة المجهضة في دراسة تبدأ من محمد حسين هيكل ولا تنتهي ببهاء طاهر، وأن يضيء خصوصية المأساة الفلسطينية معتمداً على نموذجين شهيرين هما: غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا، اللذين كتبا عن المقاومة والأمل، وتركا المأساة الساخرة إلى ثالث هو: إميل حبيبي. أكمل د. أحمد حرب كما فيصل درّاج بشكل آخر، معالجاً وجوهاً أخرى من الرواية الفلسطينية.
وقرأ رئيس التحرير، دلالة الكتابة الروائية، متكئ على مفاهيم نظرية قال بها الناقد الإنجليزي المشهور ريموند ويليمز، أشهرها "بنية الشعور " التي تربط بين داخل الإنسان وخارجه، وتربط بين الطرفين والصياغة الأسلوبية. ومع أن هذا المفهوم يبدو "بسيطاً " في مقاربته الأولى، فإن الفهم العميق له يكشف عن مفهوم بالغ التميّز والخصوبة.
تميزت المداخلات المتعددة، التي صاغت العدد الأخير من المجلة الثقافية بالوضوح والعمق النظري وقراءة التاريخ الروائي، أم تلك الدراسة اللامعة التي كتبها الباحث المصري: سمير مندي، عن رحلة الطهطاوي إلى باريز، والتي قرأ فيها أسئلة التنوير بعامة، وتلك العلاقة الواضحة الملتبسة بين الشرق والغرب.
تركت المجلة ساحة لألوان الإبداع الأدبي والفني، وهو أمر دأبت عليه، لكنها قدمت، أولاً، مادة نظرية ممتازة عن موضوع واضح الأهمية: "الرواية والأمة ". بل أنها في سياستها الثقافية برهنت عن "وحدة النقد الأدبي العربي وتكامله الثقافي، بسبب تنوع المساهمات النقدية. حققت هذه المجلة، في عددها الأخير، قفزة نظرية نوعية، على مستوى الموضوع المعالج وأشكال مقاربته، بقدر ما وسّعت أفقها العربي، على مستوى النظر والتطبيق.