في ذكرى رحيل عزت القسوس!
![في ذكرى رحيل عزت القسوس! في ذكرى رحيل عزت القسوس!](https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/static.jbcgroup.com/amd/pictures/46223.jpg)
في مثل هذا اليوم من العام المنصرم غيب الموت شخصية وطنية قلما نجد لها مثيلا..انه الأستاذ الكاتب المرموق عزت القسوس"أبو بشارة"..بعيد رحيله كتبت مقالا يعبر عما يجول في خاطري عنه وأعيد نشره في ذكرى رحيله الأولى, فللفقيد مكانة غالية وعزيزة عندي وعند محبيه وهم كثر.
(المرحوم عزت بشارة القسوس"أبو بشارة" لم يكن كاتبا عاديا, لقد كان انسانا وطنيا من الطراز الأول..دافع عن هوية الأردن العربية وعن فلسطين التاريخية..تعرفت اليه من خلال كتاباته، ولم أره في حياتي قط, ولكن تواصلنا من خلال البريد الالكتروني واصبحنا أكثر من أصدقاء رغم اختلاف دياناتنا, وهذا ما يؤكد قوة الأواصر والعلاقات بين المسيحيين والمسلمين في الشرق عامة وفي فلسطين والأردن خاصة, وهنا أستذكر مقولة حكيم الثورة الفلسطينية وضميرها الراحل الدكتورجورج حبش"أنا مسيحي الديانة, اسلامي التربية, اشتراكي الفكر"..لقد اتصفت مقالات عزت بروح وطنية عروبية قومية وخاصة بما يخص فلسطين..لقد امن أن فلسطين لا تقبل القسمة على اثنين, وأن حدودها من البحر الى النهر, ولا وجود للصهاينة فيها, كما أنه امن بأن المقاومة هي الطريق الوحيد والأوحد لتحرير فلسطين..ولم يكن الأمر غريبا أن يكون اخر مقال له في قياديي المقاومة الاسلامية الفلسطينية الشهيدين سعيد صيام ونزار ريان أللذين اغتالتهما يد الغدر الصهيونية المجرمة, هذا المقال الذي يحمل عنوان"ليكن ذكرهما مؤبداً..إختارا الطريق والحق والحياة", كتبه ونشره ثلاثة أيام قبل رحيله, وفيه يقول:"وأعلمكم أيها الأبطال أن عشقي لم يمت رغم قهري ولكنه ارتفع معكم نحو السماء وسيحيى ويعود لأبثكم حينما نلتقي في جنتنا، عند ذلك الموضع الذي حدد لنا، لابد من اللقاء والعناق والعتاب..وأخيراً بلغا تحياتي للشمعة التي ظلت موقده لتعري كنه الخضوع والاستسلام والسكون والصمت إلى يحيى عياش الذي اختار الطريق والحق والحياة"..انه يرثي الشهداء المقاومين ناعيا نفسه في نفس الوقت, وطوبى لمن نذروا حياتهم من أجل الاخرين.
وفي هذا السياق أيضا وفي منتصف شهر نيسان الحالي, في هذا الشهر الربيعي, شهر الورود كتب القسوس مقالا ينعي فيه الجامعة العربية التي لم تعد تلعب أي دور من الأدوار المصيرية التي انطلقت من أجلها, ولكنه يبدو فيه أيضا وكأنه ينعي نفسه,"هل شيع جثمان البيت العربي إلى مثواه الأخير؟"..ويفتتح مقاله قائلا:"إلى كل الأصدقاء والرفاق والإخوة والذين حاولوا تطويعي وتطبيعي أقول, أنا الآن على بعد خمسين عاماً من أحداث عمري وأحاول أن أسترجعها في تأمل حزين ورغم خمسين كأساً أو أكثر بقليل من العلقم جرعتها حتى الثمالة لست نادماً على اختيارات كتاباتي مع أني أقترب من القبر ولا أملك شيئاً من متاع الدنيا غير لقمتي وسترتي ووجع القلب المزمن والسرطان الضيف العزيز ووفاء الأصدقاء والإخوة وذكرى الشهداء الأحياء محمد طمليه والياس جريس وتيسير السبول وبدر عبد الحق لهذا سأكتب بدون خوف"..ستون يوما وما هو الا منادي الموت ينادي وكان وقع النداء صاعقا..رحل عزت القسوس..لا يا أيها المنادي عزت لم يرحل, فما مات من زرع العقيدة وارتحل.
وقف عزت وقفة رجل ضد الامبريالية الأمريكية ولقيطتها المدللة"اسرائيل"..خاض نضالا عنيفا ضد ما يسمى بالتيار المسيحي المتصهين لأنه وبحق اعتبره متامرا ضد الأردن وعروبة فلسطين..هذا التيار الذي حاول المستحيل لضرب أفكاره ومعتقداته وبشتى الطرق..نعم لقد حاول هذا التيار الفاسد المتامر- وبعد أن كان الفشل حليفه في طرق أخرى- أن يتصدى لمقالات عزت من خلال تعقيبات بأسماء مستعارة ومضامين مستعارة كوجوده المستعار, لكن كل هذه المحاولات انكسرت أمام أبواب صخرة الاصرار والعزيمة..صخرة القسوس العنيدة.. رحل عزت ولكنه باق في قلوبنا وعقولنا, وبقي هذا التيارالذي هاجمه في حياته وحضر عزاءه شامتا, لكن وكما قال الامام الشافعي"رحمه الله":قد مات قوم وما ماتت مكارمهم**وعاش قوم وهم في الناس أموات..!. لقد نادتك أقلام عمان الأبية..عمان الأردن التي احتضنت أبناء شعب فلسطين..احتضنتهم كما يحتضن الرحم الحنون جنينه, واليوم يا عزت يقوم بعض المغرضين بالتنكر لهذا الاحتضان بحجج لا أول لها ولا اخر..نعم يا عزت هل ضاقت عمان بأبناء فلسطين؟, وهل يضيق الرحم بجنينه؟, لا يا عزت, أعرف تمام المعرفة أنك لم ولا ولن ترض عن ذلك, أناديك وأعرف أنك تسمعني, نعم أنت تسمعني جيدا وأنا أسمعك جيدا وها أنت تقول انها سحابة صيف, فعمان العزة والكرامة ستبقى كما هي شاء من شاء وأبى من أبى, كيف لا وأنت من القائلين: لن نتركك يا قدس فلسطين, سندافع ونقاوم حتى الرمق الأخير..حتى التحرير الكامل..تحرير كامل التراب الفلسطيني.
نعم يا عزت, لقد نادتك أقلام عمان وها هي أقلام القدس, قدس الأقداس لم تستطع مع ذلك صبرا, تناديك من أقصاها ومن قيامتها وتهمس في أذنيك خجلا:أين الوعد يا عزت؟, لقد وعدت بزيارة, ولكنها تعلم بأنك ستلبي النداء فعندك الوعد هو الوعد, وما هي الا استراحة محارب وبعدها سنلتقي جميعا في شوارع القدس العتيقة هاتفين, لقد جئناك يا قدس الأقداس, جئناك يا أقصى, جئناك يا قيامة..وما أجملها من لحظات..لحظات تستقبل فيها القدس محرريها باذان المساجد وأجراس الكنائس, وهل يتخلى الجسد عن قلبه؟.. لا يا قدس لا تشكريننا, فلم أسمع في حياتي عاشقين يقولان شكرا, وما أروعك وأجملك من عشيقة..؟!. نعم يا عزت, انهم أصحاب الضمير والصوت الحي, انهم هم الذين هبوا وكتبوا في رحيلك ولا يزالوا يكتبون, الدكتور زكريا الشيخ وعمر شاهين, انهم الأصدقاء ونعم الأصدقاء في وقت عز فيه الأصدقاء المخلصون, كتبوا وكانت كتاباتهم صادقة معبرة..كتابات تقول وداعا ولكن لنا لقاء..انه اللقاء الأبدي.
ان حزننا على رحيل عزت يأتي من الحزن على كل مخلص و نزيه في زمن صار فيه الاخلاص و الوفاء والمقاومة ارهابا, والخيانة مجرد وجهة نظر، ذلك لأنه لم يبع ضميره و لم يتزحزح عن مبادئه ، فهو الذي التزم بافكاره التي جسدت معنى العروبة, فكان كاتب العروبة المتألق..يحزننا موته رغم ايماننا بحتمية الموت و حتمية القدر لأنه لم يترك لنا رصاصات فارغة أو بندقية لذكره و تذكره بل ترك لنا كلمات ستظل خالدة, لأن الأفكار التي تعبرعنها تلك الكلمات مثلها مثل الشموع التي نحتاج الى ضوئها كلما ادلهمت الخطوب وحلكت الليالي.
أيها الغائب الحاضر, لقد كنا نحبك وأنت معنا حيا ونظل نحبك وأنت تحت الثرى..لماذا رحلت وتركتنا نصارع هذا الزمن في وقت نحن بأمس الحاجة اليك والى أمثالك..نحن بحاجة الى أناس تمردوا على الواقع الخائن..أناس لم يعرف اليأس الى عقولهم وقلوبهم سبيلا..انه فعلا زمن القحط والهوان..لقد كان عمرك قصيرا، وإبداعك عظيما، لقد كنت رجلا والرجال قليل.
لقد انتظرت الموت بنفس الأمير البديع، مت مفكرا شجاعا مناضلا مدافعا عن قضية كانت تعتبر في يوم من الأيام قضية العرب الأولى..انها قضية فلسطين, فلسطين يا عزت تلك التي قلت عنها مرارا أنه لا بد من تحريرها من البحر الى النهر, ولا وجود للمغتصب الصهيوني فيها, قلت ما قلت عنها وفيها, في وقت يقوم بعض أولي أمرها بالتخلي عنها, متناسين صراخها وعويلها وهي تقول"وظلم ذوي القربى أشد مرارة", لقد رضوا بجزء بسيط لا يذكر منها, ولا يتعدى رشفة انبيذ من كأس مليئة, ولكنهم تفاوضوا مع العدو وشربوا نخب تقسيمها, ففلسطين أصبحت في نظرهم"فلس" و"طين", جزء يشترى بفلس واخر دفن في الطين, لكن هؤلاء قذفهم التأريخ بل انه لا تأريخ لهم.
الى الأخت العزيزة"أم بشارة" أرملة الفقيد والى الأعزاء الأولاد- بشارة ويوسف وفاتن- أقول:رحل عزت ولكنه باق في قلوبكم وقلوب محبيه وهم كثر, رحل تاركا رصيدا من الثوابت والأفكار والنضال والعنفوان من الصعب أن يتركه انسان اخر, وهذا هو العزاء, بل انه قمة العزاء..سنفتقدك يا أبا بشارة, وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر).
في ذكرى رحيلك الأولى يا أبا بشارة أقول, يعز الفراق ويحرق القلوب, ولكن لن ننثني يا سنوات الجمر واننا حتما لمنتصرون.