كلنا فلسطين
لقد جرت العادة في دول أمريكا الشمالية أن يستيقظ الناس باكراً في كل صباح للإستعداد لأعمالهم المرهقة جداً، خصوصاً أولئك العاملين في الشركات الكبرى والتي تحتاج إلى مهارات إضافية للإندماج فيها، فيحرص كلٌ منهم قبل خروجه من منزله على إلتقاط القناع المناسب لذلك اليوم حتى يتمكن من إنجاز أعماله في مجتمع خالٍ من أي حرية هوليودية، فالواقع خارج شاشة السينما مختلف تماماً، ولم أكن - بطبيعة الحال - مُستثنىً من ذلك المجتمع المعقَّد الذي يعمل على مراعاة مصالح الكبار فقط، فكان لزاماً عليّ أن أضع القناع في كل صباح، فهو جزء من اللعبة المجتمعية في العالم الأول.
في يوم ما، وبينما كنت أتجهز للقاء فريق عملي الجديد، كان لدي إجتماع بزميلة جديدة ألتقيها لأول مرة، وعندما وصلت لغرفة الإجتماعات، أغلقت الباب وتقدمت إليها لأعرِّفها بنفسي: (مرحباً ... إسمي حسين، أنا المستشار الجديد في الشركة)، فنظرت إليَّ مع إبتسامة خفيفة وقالت: (مرحباً حسين، أنا إسمي مارينا)، فقالت لي: (قبل البدء، لماذا لا تعطيني نبذة عن حياتك وخبراتك السابقة؟)، فقلت لها: (بالتأكيد!)، وأعطيتها نبذة سريعة ومختصرة، كان أهمها أني كندي وأردني الجنسية من أصول فلسطينية، ودائماً ما أحرص على ذكر الأصول الفلسطينية لتبقى فلسطين في الوجدان، وأيضاً لأبعث رسالة واضحة للآخرين أننا لن ننسى فلسطين، وقد لاحظت خلال الحديث أنَّ هذه الجزئية قد لفتت إنتباهها كثيراً.
وما أن أخبرتها أنَّ دراستي الجامعية كانت في أوكرانيا - إحدى جمهوريات الإتحاد السوفيتي سابقاً - وأني أجيد التحدث بالروسية، حتى إستدارت عيناها إندهاشاً مما سمعت، وبدى لي جلياً أنها تريد التحدث، فقلت لها: (وماذا عنك ... حدثيني عن نفسك؟)، فقالت: (حسين ... يبدو أنَّ لدينا الكثير من الأمور المشتركة، فأنا كندية إسرائيلية من أصول روسية، وقد عشت في إسرائيل طيلة حياتي قبل الهجرة إلى كندا)، طبعاً لقاءات من هذا النوع لم تكن جديدة عليّ، ولدي ما يكفي من الخبرة لإدارة مثل هذه الحوارات.
فسألتها مباشرة: (تشتاقين لفلسطين يا مارينا؟)، فقالت: (لعلك تقصد إسرائيل، فأنا لم أعش في فلسطين، لكن المستوطنة التي كنت أسكنها كانت قريبة من الحدود مع فلسطين)، فضحكت وقلت لها: (أنا متأكد تماماً من أنك تعلمين ما هي جغرافيا فلسطين بالنسبة للفلسطيني؟)، فقالت: (من النهر إلى البحر؟)، قلت لها: (بالتأكيد وعاصمتها القدس الشريف، وليست حبة الفاصوليا التي عاصمتها رام الله ... تلك ليست فلسطين، تلك كذبة إبريل!). فأغمي عليها من الضحك وسألتني: (ألا تدعم عملية السلام؟)، فقلت لها: (أنت تعلمين أنَّ ما يحدث اليوم هو حمل كاذب لن يتولَّد عنه أي دولة فلسطينية، لا اليوم ولا بعد ألف عام، وإن حصل ... فستكون دولة مشوَّهة لا تقوى على العيش طويلاً من دون دماغ وقلب ورئتين)، فقالت: (ما هو الحل برأيك؟)، قلت لها: (دولة واحدة ديمقراطية على غرار كندا والولايات المتحدة تجمع في طياتها المسلمين والنصارى واليهود، ولو حدث ذلك الأمر، قد نرضى بإسرائيل كإسم للدولة الواحدة، فإسرائيل هو إسم نبي الله يعقوب وهو مُقدَّس عند المسلمين)، فاستغربت وقالت: (وهل سيرضى قومك بذلك؟)، قلت لها: (لا عليك من قومي، أنا سأتكفل بإقناعهم، لكن السؤال هو ... هل سيرضى قومك بذلك؟)، قالت: (بالطبع لا، فدولة ديمقراطية حرة متعددة الأحزاب تعني أنَّ اليهود سيصبحون أقلية برلمانية لا يملكون في إسرائيل أي كلمة، وهذا يعني نهاية الحلم الصهيوني الذي لأجله أسست إسرائيل)، فسألتها: (إذاً أنت ترين إسرائيل دولة عنصرية غير ديمقراطية؟)، قالت: (نوعاً ما، ولعل هذا الأمر الذي دفعني للهجرة إلى كندا منذ ٧ أعوام، فقد أتعبني ذلك الحلم الصهيوني!). وبعد ذلك السجال، تحدثنا بالروسية قليلاً، ومن ثم قررنا بدء الإجتماع كزملاء كنديين، ومازالت تجمعني بها زمالة عمل طيبة.
في مناسبة أخرى، أخبرتني «أنيتا» وهي زميلة كندية نصرانية عن نيتها لزيارة فلسطين لأول مرة في حياتها مع مجموعة من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وكانت قبل تلك الرحلة دائماً ما تحدثني عن ضرورة السلام بين العرب والإسرائيليين، وبعد زيارتها التي إستمرت إسبوعين، جاءتني بوجه مختلف تماماً، ودعتني لتناول القهوة لتخبرني عن رحلتها، وقالت لي خلال الحديث: (لم أكن أتخيل حجم الأسى الذي يُعاني منه الفلسطينيون، لم أكن أتخيل حجم الظلم الواقع عليهم، لقد رأيت كل شيء بأم عيني ولم يخبرني عنه أحد، لم أعد أصدق جمعيات الإخاء اليهودية التي تأتي إلى الكنيسة للحديث عن ظلم اليهود في فلسطين، لم أعد أصدق الإعلام الغربي، كلهم متآمرون!)، فسألتها مباشرة: (هل ترين أي مجال للسلام بين العرب والإسرائيليين يلوح في الأفق؟)، فقالت بنبرة واثقة: (بالتأكيد لا، فالسلام كلمة تحتاج إلى تكافؤ، والتكافؤ بين العرب والإسرائيليين منعدم تماماً، والأهم ... السلام يحتاج إلى نوايا حسنة، والإسرائيليون ليس لديهم أياً من تلك النوايا).
عزيزي العربي، جميعنا يعلم - مع الأسف الشديد - مدى صدق «مارينا» و «أنيتا»، فإسرائيل لن تتخلى عن حلمها الصهيوني، وإختلال موازين القوى بين العرب والإسرائيليين لن يسمح حتى بوجود حبة الفاصوليا المشوَّهة، كلها أوهام هدفها إستمرار السبات العربي، ولن ينتفع منها سوى زمرة خبيثة سيلعنها الزمان إلى قيام الساعة.
لا يخفى اليوم أنَّ الحكومات العربية والغربية قد ألقت بالقضية الفلسطينية من على كاهلها ليتحملها الشرفاء والأحرار فرادى، فإذا سقطت تلك القضية من وجداننا ... فستسقط من وجدان العالم الحر، ولن يعود لها أي وجود على الإطلاق سوى في كتب التاريخ المُحرَّفة.
بعد أيام، سيخرج الشرفاء في جميع أنحاء العالم لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، ونحن في كندا سنخرج - بإذن الله - لإحياء تلك الذكرى الأليمة في أجواء الحرية والديمقراطية، وأدعو جاليتنا العربية الكريمة في كندا للمشاركة في إحياء هذه الذكرى في مدنهم ومقاطعاتهم، ونحن في مدينة ميسيساجا، سنخرج يوم ١٥ مايو القادم إلى ساحة الإحتفالات (Celebration Square) في تمام الساعة الثانية ظهراً لنرفع العلم، ونُحي القيم، قيم الحرية والعدالة والكرامة، وسنُذِّكر العالم بحقنا التاريخي والأزلي في تلك الأرض المباركة، أرض موسى وعيسى ومحمد.
أتمنى من كل إخوتنا العرب ... كل العرب أن يشاركوا في ذلك اليوم، ففلسطين لنا جميعا، ولا تجلعوا سايكس وبيكو يفرحوا في قبورهم بذلك الوهم الذي زرعوه على الأرض ... أنتم أذكى منهم بكثير!
مارسوا حرياتكم في كندا واستمتعوا بمواطنتكم، ولا تسمحوا للأعداء أن يُخرجوكم من أرضكم مرتين، مرة من الشرق ... ومرة أخرى من الغرب، نلقاكم على خير في ذلك اليوم، كل التقدير والحب للشرفاء والأحرار.