الآخر الذي لا نتوقف عن امتهانه
دون ديباجات لغوية بائسة أو استدعاء فاسد لتاريخ عذاباتنا ومظالمنا أو محاولات زائفة لإعفاء الذات الجمعية من مسؤوليتها عن الاستبداد والفاشية والإرهاب، علينا الاعتراف بعجزنا كعرب عن الحياة متصالحين مع الآخر إن في مجتمعاتنا أو بعيدا عنها.
يصطنع الاستبداد آخره، يصطنعه من كل صوت يطالب بالحق والحرية، من كل مواطن يرفض الخضوع لإرادة من يحكمون ويملكون ولا يحاسبون، من كل فرد يقاوم الإدماج في حشود هويتها الوحيدة هي الاصطفاف وراء المستبد وطاعته. يصطنع الاستبداد آخره، يصطنعه وفقا لتصنيفات دينية ومذهبية وعرقية وفكرية واهية ثم يعمل فيه التهديد والتعقب وانتهاك الحقوق وسلب الحريات والتعذيب والقتل والتهجير والإبادة الجماعية.
يصطنع الاستبداد آخره، وحين تبتعد التصنيفات الواهية والجرائم الكارثية عنا ننزع إلى الصمت طمعا في الخبز والأمن أو خوفا من التعقب والقمع ونترك الضحايا تارة لمآلاتهم وتارة لتضامن يأتي من وراء الحدود. يصطنع الاستبداد آخره، وتروج طيور ظلام الاستبداد لمقولات التكفير والتخوين والتآمر والكراهية وتنزع عن الآخر إنسانيته لتمكن لإلقاء مئات الآلاف وراء الأسوار في مصر وتنفيذ الإعدامات الجماعية في السعودية وارتكاب جرائم إبادة جماعية في سوريا والتورط في "التطهير المذهبي" والقتل على الهوية في العراق.
تصطنع الفاشية آخرها، حينا باسم الوطنية وحينا باسم الفضيلة وحينا باسم الدين وفي الكثير من الأحيان باسم الفكرة العنصرية. باسم وطنية زائفة يدعي المستبدون احتكارها حق تعريفها وتحديد مضامينها، يستبعد المعارضون والمختلفون والمتمسكون بالحرية والرافضون للاصطفاف في حشود نزع عنها العقل ويصنفون كأهل شر وعناصر طابور خامس يجلبون الهزائم ويتآمرون على إنجازات الحكام.
باسم فضيلة متوهمة، تصطنع أغلبية ذات تفضيلات شخصية وأخلاقية وقيمية تزعم غلبتها ويصطنع من أصحاب التفضيلات الشخصية والأخلاقية والقيمية المغايرة آخر يدان ويتعقب وتستباح دمائه ويتشفى في إسالتها. وليس التعقب الأمني في مصر لغير الصائمين خلال نهار رمضان، ولا الأحكام المتكررة التي تصدرها الجهات القضائية المصرية في قضايا تعنون بالفجور ونشر الفسق، ولا التشفي المريض الذي انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي في ضحايا المذبحة الإرهابية في أورلاندو الأمريكية لارتيادهم مكانا للمثليين جنسيا سوى دلائل واضحة على ممارستنا للفاشية باسم الفضيلة.
باسم دين يستدعى زيفا، غير أنه يستدعى دون شك بشيء من رمزيته وببعض من مساحاته وبعدد من الأصوات المنتسبة إليه، تستعلى فاشية الحقيقة المطلقة والفريضة الغائبة على من تعتبرهم خارجين عن الإجماع المنزل إلى جماعة أو ملة أو أمة وتحيلهم إلى آخر لا يستحق سوى الحصار أو القتل أو الإبادة. لا تقبل الفاشية الدينية التعايش مع الآخر مهما انزوى في هوامش وارتضى أربابه حياة القبور المجتمعية، وتنتشي هي وصناعها حين تعمل في الآخر جرائم سلب الحرية للتعبير عن الرأي التي تنفذها السلطات متكئة على المؤسسات الدينية الرسمية (كسجن الروائي المصري أحمد ناجي بتهمة ازدراء الأديان، وسجن بعض الكتاب السعوديين باتهامات مشابهة) أو جرائم امتهان الكرامة الإنسانية وانتهاك الحق المقدس في الحياة على النحو الذي تمارسه عصابات داعش ونظرائها في بلادنا وفيما وراء حدودنا.
باسم فكرة عنصرية تتنزل في واقعنا العربي الحزين مقولات طائفية ومذهبية وعرقية عنيفة ومتهافتة يصطنع الآخر الذي استطالت قوائم ضحاياه وطالت تواريخ تعقبه وقمعه وقتله وقبل ذلك نزع إنسانيته وحقه في المساواة. والحصيلة هي شواهد مفزعة كالعنف الطائفي ضد أجساد وممتلكات بعض الأقباط المصريين الذي حدث منذ أيام في محافظة المنيا في صعيد مصر، وجرائم القتل التي ترتكبها الآن ميليشيات الحشد الشعبي ضد المواطنين المنتمين للمذهب السني في العراق، وجرائم الإبادة التي تنفذها العصابات الفاشية للديكتاتور الأسد ضد السوريين المنتمين للمذهب السني منذ ٢٠١١ وإلى اليوم، وجرائم القتل الوحشي التي تنزلها آلة الدماء التابعة لداعش تارة بالمسيحيين في العراق وأخرى بالخارجين عن إجماع متوهم للسنة في سورية وثالثة بالشيعة في بعض بلدان الخليج.
ثم يصطنع الإرهاب آخره الذي يحتفل المجرمون بقتله في مذابح جماعية وفي حوادث فردية، لا فارق هنا بين تفجير بيوت للعبادة في الكويت ولبنان وبين تفجير ملهى ليلي في الولايات المتحدة الأمريكية. يصطنع الإرهاب آخره، ونلجأ إلى المواقف الرمادية للتهرب من الإدانة القاطعة أو للتورط في التبرير الفاسد.
كفانا تحايلا، نحن نتاج مجتمعات تعجز عن التصالح مع الآخر ولا تريد قبوله. نحن نتاج مجتمعات تعمل بها كوارث الاستبداد والفاشية والإرهاب معاول الهدم لفرص التعايش عبر تنوعات البشر الحاضرة منذ قديم الأزل وإلى أبد الأبدين. كفانا تحايلا، فقد صرنا شعوب العالم المنكوبة ونكبته المتنقلة عبر حدود لم يعد يطيق أحد اقترابنا منها.