السفير السعودي في بيروت علي عواض عسيري - ارشيفية
ما لم يُعالج التشكك وعدم الثقة وانعدام الأمن والأوهام أولاً، لن تستطيع أية حوافز – مهما كانت كاسحة ومقنعة – أن تشجّع إسرائيل والفلسطينيين على القيام بالتنازلات الهامة والمطلوبة للوصول لاتفاقية سلام.
(هذه المقالة من جزئين. سينشر الجزء الثاني الأسبوع القادم)
انتهى المؤتمر الدّولي الذي دعت لانعقاده فرنسا في اليوم الثالث من شهر جزيران في باريس لدفع العمليّة السلميّة الاسرائيلية – الفلسطينيّة إلى الأمام بدون وضع إجراءات معيّنة بشكل ملموس تقنع كلا الطرفين لاستئناف المفاوضات من أجل التوصّل لاتفاقية سلام. وقد ورد في البيان المشترك الذي أذيع بعد المؤتمر مباشرة ً:"ناقش المشاركون طرقا ً ممكنة قد تساعد المجتمع الدولي على دفع آفاق السلام إلى الأمام، بما في ذلك توفير حوافز ملموسة للطرفين لصنع سلام بينهما".
وبالرغم من أنّ المؤتمرين وافقوا على الاجتماع ثانية ً في وقت ٍ لاحق من هذا العام وتقديم بعض الحوافز للطرفين للشروع ثانية ً في المفاوضات بشكل ٍ جدّي، أعتقد أنا شخصيّا ً بأنه لن تنجح أية حوافز، مهما كانت مكثفة ومقنعة، ما لم يسبقها فترة من المصالحة بين إسرائيل والفلسطينيين. وبالفعل، إذا رفض نتنياهو وعبّاس الإنخراط في عمليّة مصالحة، فإنّ هذا ما سيدلّ وبشدّة على أنهما غير مهتمين في التوصّل لاتفاقية سلام، فما بالك القيام بالتنازلات الرئيسية اللازمة لتحقيق السلام.
وفي حين أنّ الحوافز ستكون في نهاية المطاف ضرورية لجذب التوصّل إلى اتفاق، غير أنّ هناك ثلاث معوّقات أساسيّة يجب أن تُزال أو على الأقلّ أن تُخفف أولاً من أجل تغيير فهم ونظرة الإسرائيليين والفلسطينيين لبعضهم البعض لتمكينهم من التفاوض بنيّة حسنة. وهذه العناصر الثلاثة هي: التشكك أو انعدام الثقة المترسخة بين الطرفين، والمخاوف حول الأمن القومي والأوهام التي ما زالت تراود دوائر انتخابيّة هامة على كلا الجانبين والتي تنكر في نهاية المطاف حقّ كلّ طرف ٍ تجاه الآخر في إقامة دولة مستقلّة له.
التشكّك / انعدام الثقة: لا يمكن تخفيف إنعدام الثقة المتفشي والمتبادل بين الطرفين من خلال المفاوضات أو تبديده بالموافقة بكلّ بساطة على البدء في الثقة ببعضهما البعض. فهي عملية يجب تغذيتها عبر فترة من الزمن. وحسب قول الفيلسوف جاي بيرنشتاين:"توفّر علاقات الثقة الجوهر الأخلاقي للحياة اليوميّة.....فعلاقات الثقة هي علاقات الإعتراف المتبادل التي نعبّر فيها عن موقفنا المتبادل وضعفنا تجاه بعضنا البعض".
ويبقى التشكك وانعدام الثقة أحد أعوص المشاكل المستمرة في ملاحقة كلا الطرفين وأصبح مغروسا ً في عقول تقريبا ً كلّ إسرائيلي وفلسطيني حيث لم يقم أيّ من الطرفين بأي جهد لتخفيفه. لا بل عكس ذلك، لقد قاموا وما زالوا يقومون بأعمال جهاريّة على أرض الواقع بطرق ٍ لا تعمّق سوى التشكك وانعدام الثقة. فإسرائيل، على سبيل المثال، استمرّت في بناء وتوسيع المستوطنات وحماس أنشأت أنفاق في غزّة لأغراض ٍ هجوميّة، وأقحم فلسطينيّون ومستوطنون أنفسهم في عنف ٍ عشوائي، وأظهر القادة على كلا الجانبين قسوة ً بشكل علني. أضف إلى ذلك، فالكيمياء الشخصيّة والتواصل بين القيادتين الإسرائيلية والفلسطينيّة كان وما زال غائبا َ كليّا ً.
لقد خلق التشكّك وانعدام الثقة المتواصل بين الطرفين موقفا ً متصلبا ً من العناد والإفتراضات المعزّزة بحجج حول النوايا الحقيقيّة لكلّ طرف ٍ تجاه الآخر. زد على ذلك، فإن غياب الثقة يقود إلى الشلل الإجتماعي وفقدان الأمل، هذا في حين أنه يثير الخوف وشعور عميق بالتشكّك وعدم اليقين والعجز عن تعزيز الروابط الإجتماعيّة. ونتيجة لذلك أصبح كلّ طرف يشكّ في كلّ إجراء يقوم به الطرف الآخر بصرف النظر عن مدى حسن نيتهما في ذلك حيث أنّ الشكّ المتبادل يقودهما إلى الشعور بالعبثيّة في القيام بأية تنازلات.
وللتأكيد، لم يُتخذ سوى القليل من الجهد لإشراك الطرفين مع بعضهما البعض من خلال عمليات مصالحة متبادلة "لزراعة" الثقة. وبدلا ً من ذلك، استخدم الطرفان المنصّة الشعبيّة لإهانة الآخر والتشهير به، معمّقين بذلك الكراهيّة وعدم الثقة بدلا ً من بناء جسور جديدة. ونتيجة لذلك، هوى انعدام الثقة لدرجة عميقة يصعب ببساطة تقويمه على طاولة المفاوضات. ولذا يجب تغذية هذه الثقة للسماح لكلا الطرفين أن يرى كلّ منهما الآخر كشريك محتمل أهل ٌ للثقة.
وفي التحليل النهائي، يمكن تخفيف انعدام الثقة فقط عن طريق عمليّات التواصل من شعب لشعب. يحتاج الطرفان لاتخاذ إجراءات بناء الثقة لكي يستعرضا بأمانة بأنهما قادران بالفعل على البدء في عملية تعلّم كيفيّة أن يثقا ببعضهما البعض والتعهّد بالوصول لبنود مشاركة متفق عليها من الطرفين تفسح الطريق أمام سلام ٍ دائم. وقد تحتوي هذه الإجراءات على ما يلي ولكنها بالتأكيد ليست مقتصرة ً عليها:
بإمكان إسرائيل إيقاف أو على الأقلّ تخفيض وتيرة بناء المستوطنات والتوسّع بها خلال هذه الفترة. كما وينبغي عليها وضع نهاية للعقاب الجماعي والغارات الليليّة والعمل بشكل ٍ وثيق مع وحدات الأمن الداخلي الفلسطينيّة لمنع المتطرفين على كلا الجانبين من تقويض هذه العمليّة. وإجراء آخر هو إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين الذين لم يرتكبوا أعمال عنف أو السماح لهم بمزيد من حقوق الزيارة تمكّن عائلاتهم من زيارتهم بشكل ٍ منتظم.
وعلى الجانب الآخر، بإمكان الفلسطينيين أيضا ً اتخاذ إجراءات معينة بدءا ً بوقف جميع أعمال التحريض الشعبيّة والعمل بشكل ٍ وثيق مع إسرائيل في السعي وراء المتطرفين داخل الأراضي الفلسطينيّة والمشاركة بشكل ٍ منتظم في خلق رواية شعبيّة إيجابيّة والحديث علنا ً حول ضرورة المصالحة مع إسرائيل والتشديد على حتمية التعايش السلمي بين الشعبين. وللتأكيد، فان عمليات التواصل من شعب لشعب عبر فترة ٍ من الزمن لا تقلّ عن 18 شهرا ً ستكون ضرورية لتنمية درجة من الثقة تسمح لكلا الجانبين أن يرى بعضهما البعض من خلال عدسة أكثر ايجابيّةً.
الأمن القومي: هناك - في الوقت الجاضر – حالة من الخوف والقلق من المستقبل يعاني منها الطرفان ويغذيها بشكل ٍ مستمرّ إحساس عميق بانعدام الأمن القومي. لقد تشكّل هذا القلق بدرجة كبيرة من خبرات الماضي حيث أنّ للطرفين فعلا ً من الأسباب ما يدعوهما للقلق حول أمنهما الوطني. فبالنسبة للإسرائيليين، تشمل هذه الخبرات والتجارب القصف العشوائي وعمليّات العنف المتطرّف مثل حوادث الطعن المتعددة خلال فترة الثمانية أشهر الماضية والعمليّات "الإنتحاريّة" بتفجير السيارات والتهديدات الوجودية الناشئة من إيران ومجموعات مثل حماس وحزب الله.
وبإثارة إحساس انعدام الأمن بشكل ٍ مستمرّ أصبح الأمن شعار الدولة مجبرا ً إسرائيل في أغلب الأحيان لاتخاذ إجراءات تفترض أنها تعزّز أمنها في حين أنها – في نفس الوقت – تزيد من تفاقم إحساس الفلسطينيين بعدم الأمان.
وبالنسبة للفلسطينيين، يؤول خوفهم المتواصل والشامل لإدراكهم بأن إسرائيل أقوى دولة في المنطقة وستبقى دوما ً كذلك وبأنهم لا يستطيعون في أيّ حال ٍ من الأحوال وتحت أي ظرف الهيمنة على إسرائيل من خلال القوة. لقد عبّر عن ذلك هنري كيسنجر بقوله أن "أمن إسرائيل المطلق يسبب للفلسطينيين انعدام أمن مطلق". وهذا الإحساس بانعدام الأمن يقوّي لدى الفلسطينيين قلقا ً متواصلا ً غالبا ً ما يعزّزه الخوف من الغارات الليليّة وعمليات هدم البيوت وخسارة الأراضي والإعتقالات الإداريّة وغيرها. وحقيقة أنّ بإمكان إسرائيل اتخاذ – في أيّ وقت تشاء – إجراءات تراها ضرورية تحت ذريعة الحفاظ على أمنها الوطني قد خلقت لدى الفلسطينيين إحساسا ً عميقا ً بالضعف.
إضافة إلى ذلك، فإن الوضع الإقليمي المقلق وتطور الأحداث التي لا يمكن لأي طرف ٍ منهما السيطرة الكاملة عليها لا تسمح لهما بأخذ الأمن كأمر مسلّم به. فالثورات الإقليميّة الكاسحة، بما في ذلك الحرب الأهلية في سوريا وانبعاث تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام "داعش" وتأثير الصراع السنّي – الشيعي الدامي كان لها جميعها تأثيرا ً مباشرا ً وغير مباشر على العلاقة ما بين إسرائيل والفلسطينيين وتخلق قلقا ً شديدا ً يمنع القيام بأي تنازل قد يؤثّر على أمنهم القومي والفردي.
وحتّى لو تمّ إقناع كلا الطرفين بايقاف جميع النشاطات التي تعزّز أو تحفّز المخاوف أو القلق حول الأمن القومي، فإنّ الأمر سيستغرق وقتا ً طويلا ً للتعاون التامّ واتخاذ بشكل منتظم خطوات عمليّة متسقة للمصالحة ويكمّل بعضها بعضا ً للتخفيف من بعض هذه المخاوف الأمنية القومية.