كيف يؤثر الثراء على أخلاقنا؟
المدينة نيوز :- تظهر سلسلة من الدراسات، على ما يبدو، أن الأثرياء هم أكثر شحاً وأقل جدارةً بالثقة من سواهم، ولكن هل هذه النتائج دقيقة وواقعية؟ سؤال تسعى كلوديا هاموند، لبحث الإجابات المحتملة له من خلال السطور التالية.
ربما يكون كلٌ منّا قد اكتشف ذات مرة، خلال وجوده في مَشْرَبٍ ما، أن الأشخاص الأكثر ثراءً ممن يجلسون حوله، هم على ما يبدو الأقل استعداداً للمسارعة بتحمل تكاليف ما احتسوه من مشروبات.
في تلك الحالة، ربما يكون المرء قد تساءل عما إذا كان هؤلاء يتسمون دوماً بهذا القدر من الدناءة والبخل، وما إن كانت تلك الصفة هي التي ساعدتهم ربما على أن يصبحوا أثرياء؟ أم أن هناك شيئاً ما مرتبطاً بامتلاك قدر كبير من المال، هو الذي حدا بهم لأن يصبحوا بخلاء على تلك الشاكلة؟
هو سؤال معقد، بوسع المرء محاولة الإجابة عليه من أوجه عدة ومختلفة. فمن الممكن التركيز على مجموعة من الأشخاص يُعرفون باهتمامهم بالشؤون المالية، كالاقتصاديين على سبيل المثال، ومقارنة ما يتصفون به من سخاء وكرم، بذاك الذي يتسم به الآخرون.
وفي عام 1993؛ جرت دراسة تناولت هذا الأمر تحديداً، وخلصت إلى أن عدد دارسي الاقتصاد، ممن أقروا بأنهم لم يتبرعوا قط للجمعيات الخيرية، كان يزيد بواقع الضعف على مثيله بين دارسي الهندسة المعمارية وعلم النفس.
كما كشف معدو الدراسة نفسها عن أن دارسي الاقتصاد هؤلاء، كانوا أقل رغبة واستعداداً للتصرف بلطف في ألعاب تتطلب التعاون من قبل ممارسيها، مثل اللعبة المعروفة باسم "معضلة السجين"، والتي تقوم على وجود متهميّن، لا يملك المحققون أدلة كافية لإدانتهما، ومن ثم يكمن السبيل الوحيد للإدانة في اعتراف أحدهما على الآخر، ليُبرأ المعترف ويسجن صاحبه، وهو ما يعني في المقابل أن تعاونهما، هو ما سيكفل خروجهما معاً بأقل الأضرار.
وعندما دُرس سلوك الطلاب جميعاً في بداية دراستهم الجامعية وقرب نهايتها، تبين أن سخاء دارسي العلوم الأخرى بخلاف الاقتصاد، زاد قليلاً مع اقترابهم من موعد التخرج، بينما ظل دارسو الاقتصاد على نفس المستوى من الافتقار النسبي لهذه الصفة طيلة فترة الدراسة.
بطبيعة الحال، ما نتحدث عنه هنا هو تقديرٌ لما هو شائعٌ في أوساط دارسي العلوم الاقتصادية، لذا فهو لا ينفي أن بينهم من يتصفون بالكرم والإيثار.
في الواقع؛ هناك بعض الأدلة التي تفيد بأن من يمتلكون أموالاً أكثر، أو يقيمون – على الأقل - في مناطق مترفة أو ترتفع فيها تكاليف المعيشة، ربما يتصرفون بشكل يتسم بقدر أكبر من الإيثار.
فقد جاب الباحثون 20 منطقة مختلفة من مناطق العاصمة البريطانية لندن، وألقوا على أرصفة كلٍ منها، 15 خطاباً مدونٌ عليها اسم المرسل إليه، للتعرف على العدد الذي سيتم العثور عليه في كل منطقة وإعادة إرساله إلى مقصده، من قبل عابري السبيل ممن يتسمون بالغيرية فيها.
وقد تبين أن مناطق تتسم بارتفاع مستوى معيشة سكانها، مثل ويمبلدون، شهدت إعادة إرسال 87 في المئة من تلك الخطابات إلى العناوين التي كانت مُدونة عليها، مُقارنةً بنسبة لم تتجاوز 37 في المئة في المناطق الأكثر فقراً مثل شادويل.
كما أن ميسوري الحال يميلون أكثر – على ما يبدو - لإظهار الجانب السخي من شخصياتهم، من خلال الإقدام على أفعالٍ تُوصف بأنها تنطوي على نزعة إيثار غير عادية أو مفرطة، وهي تلك التصرفات التي لا تحظى سوى بقدر ضئيل من التقدير العلني، وتتدنى فرص أن يلقى أصحابها في مقابلها صنيعاً مماثلاً لما أقدموا عليه.
وهنا يمكن الاستعانة بدراسة جرت على يد الباحثتيّن بجامعة جورج تاون الأمريكية؛ كريستين بريثل-هورويتز وأبيغَيل مارش، حول أسباب التفاوت الكبير في معدلات التبرع بالكلي لغير الأقارب بين الولايات الأمريكية المختلفة.
ورغم أن الدراسة بحثت دور عوامل متنوعة في هذا الصدد، ومن بينها مستوى التدين السائد في الولايات التي شملها البحث؛ فإن المؤشر الأكثر تأثيراً في وجود نزعة للتبرع من عدمه، تمثل في متوسط مستوى الدخل بين سكان تلك الولايات.
فببساطة، زاد عدد المتبرعين في الولايات التي يزيد متوسط دخل سكانها. لكن ذلك لا يعني بالضرورة، أن الأثرياء أكثر رغبة في التبرع بالكلى من الفقراء أو من هم أقل ثراءً منهم، بل يشير إلى أن الميل للتصرف بقدر أكبر من الإيثار، يبدو مرتبطاً بارتفاع مستوى المعيشة ووجود قدر من الرفاهية.
ولكن العلاقة هنا قد تكون عكسية؛ أي أن يكون ارتفاع مستوى المعيشة في منطقة ما، هو ما يمكن سكانها من التصرف على نحو أكثر غيرية من غيرهم.
وهكذا؛ فباستثناء دارسي الاقتصاد الذين خضعوا للدراسة في تسعينيات القرن الماضي؛ تبدو نتائج الدراسات المتعلقة بالكرم والسخاء تصب في صالح الأثرياء والمعنيين بالشؤون المالية.
غير أن انطباعاً مثل هذا قد لا يبقى في الذهن كثيراً، إذا ما أطلع المرء على الدراسات التي أجراها بول بيف من جامعة كاليفورنيا الواقعة في منطقة بيركلي بالولايات المتحدة. في إحدى هذه الدراسات؛ طرح بيف سلسلة من العبارات على المشمولين بالدراسة، للتعرف على مدى إحساس كل منهم، باستحقاقه لمعاملة تفضيلية مقارنةً بغيره.
ومن بين هذه العبارات : "كنت سأستحق ركوب أول قارب نجاة إذا ما كنت من بين ركاب الباخرة تيتانيك". وكشفت الدراسة عن وجود من وافقوا على هذه العبارة على نحو قاطع، وغالبية هؤلاء كانوا أثرياء لا فقراء.
كما أظهرت الدراسة أن الأشخاص الأكثر ثراءً أميل إلى الموافقة على عبارات تشير إلى أنهم كانوا دوماً على صواب، وأنهم يتسمون بالكفاءة في كل المجالات.
ووافق هؤلاء كذلك على عبارات تفيد بحرصهم على النظر في المرآة، للتأكد من أن مظهرهم مهندمٌ قبل أن تُلتقط لهم الصور.
وفي دراسة أخرى، جمع بيف أشخاصاً تتفاوت مستويات دخولهم، إلى حد أن بينهم من يصل دخله إلى 200 ألف دولار أمريكي سنوياً.
ومنح الباحث كلاً من هؤلاء عشرة دولارات، وأعطاهم الحق في تحديد القدر الذي سيقررون التبرع به من هذا المبلغ، إذا ما قرروا من الأصل التخلي عن جزء منه. وكشفت الدراسة عن أن الأكثر سخاءً كانوا الأقل ثراءً.
لكن علينا هنا أن نتذكر، أن هؤلاء الأشخاص كانوا أثرياء من الأصل قبل مشاركتهم في تلك الدراسة. ولذا، فمن الممكن ألا يكون ثراؤهم هو ما أملى عليهم التصرف بتبذيرٍ أو تقتير، وإنما قد يكون هذا السلوك هو الأصل، وهو ما ساعدهم على أن يصبحوا أثرياء من الأساس.
بعبارة أخرى، قد يكون التصرف بحرص في المسائل المالية مترافقاً مع الإحساس المبالغ فيه بالثقة في النفس، هو ما ساعد هؤلاء الأشخاص على اكتساب الثروة.
إذاً، ماذا عن جعل شخصٍ ما ثرياً على نحو مصطنع ومتوهم لبعض الوقت؟ هل سيغير ذلك من طبيعة شخصيته؟ للإجابة على ذلك؛ أجرى بيف تجربةً تقوم على ممارسة مجموعة من الأشخاص للعبة "بنك الحظ" مع تعديلٍ واحد في قواعدها، يتمثل في إجراء قرعة مسبقة، يحظى الفائزون فيها بالحق في بدء اللعبة، بقدرٍ من النقود يزيد بواقع الضعف عن نظرائهم، بل وتمكينهم من الحصول - في كل مرة يفوزون فيها خلال اللعبة - بأموالٍ تزيد بالنسبة نفسها عما يجنيه غرماؤهم.
على أي حال لم يكن مستغرباً، أن يصبح هؤلاء اللاعبون سعيدو الحظ، أكثر فرصاً في الفوز باللعبة نفسها. لكن الأهم بالنسبة لـ"بيف"، الذي كان يراقب مجريات اللعب خفية، تمثل في تحديد ما إذا كانت هناك تغيرات أخرى طرأت على شخصيات أولئك اللاعبين أم لا، بمجرد أن نَعِموا بهذا "الثراء المصطنع".
العديد منهم بدا أكثر صخباً وضوضاء، ويميل إلى الصياح وهو ينقل سيارة السباق على اللوحة، التي تجري عليها اللعبة، مُتقافزاً بها من هذه الخانة إلى تلك. كما أن بعضهم حصل على نصيبٍ أكبر من ذاك الذي ناله أقرانه، من صحن المعجنات الذي كان موضوعاً على الطاولة.
وعندما سُئلوا عقب انتهاء اللعبة، عن السبب الذي يرون أنه يقف وراء فوزهم، لم يتحدث أيٌ منهم عن تلك المزايا التي حظوا بها من البداية، بل تحدثوا عما بذلوه من جهد وما اتخذوه من قرارات حكيمة.
ولذا فربما يشكل حيازة المرء لأموالٍ، حتى ولو على نحو مؤقت، دافعاً محتملاً له ليغدو أكثر أنانية.
فضلاً عن ذلك، طفق بيف لبعض الوقت يتظاهر بأنه من بين عابري الطريق، في إحدى مناطق مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، ليرصد ما إذا كان سائقو السيارات الأكثر ميلاً للوقوف لإتاحة الفرصة للمشاة للعبور، هم أولئك الذين يقودون سيارات فارهة، أم نظرائهم ممن يستخدمون مركبات متواضعة الحال.
وربما يكون بوسعك – عزيزي القارئ – تخمين أن سائقي السيارات الفارهة، لم يبلوا بلاءً حسناً في هذا المضمار، فقد أظهرت نتائج الدراسة أن نصف هؤلاء فقط، هم من تصرفوا بشكل يراعي المشاة العابرين، بينما كانت النسبة بين سائقي السيارات رخيصة الثمن 100 في المئة. ولكن هذه الدراسة على أي حال، جرت على نطاق محدود للغاية.
كما أن قيادة شخصٍ لسيارة ما غير كافٍ للتيقن من أنه ثري بالفعل، فقد يكون من يقود السيارة الفارهة سائقاً لا مالكاً لها، أو ربما يكون قد اشتراها بالأجل، وليس لأنه يمتلك المال اللازم لذلك.
ولذا سعى الباحث شتيفان تراوتمان من جامعة هايدلبرغ إلى تجاوز أي شكوك في هذا الصدد، عبر إجراء بحث شمل تسعة آلاف شخص، واستند إلى المعلومات الأكثر دقة واكتمالاً بشأن ذلك الموضوع. وقد أُجريت هذه الدراسة أربع مرات خلال سنة واحدة في هولندا، وكشفت عن أن الأشخاص ذوي المكانة المادية والاجتماعية الأفضل والأرفع، ينزعون إلى أن يكونوا أكثر استقلالية وأقل تفاعلاً مع المحيطين بهم.
ولكن عندما ينخرط هؤلاء في ألعابٍ تتطلب ألا يغش لاعبوها بعضهم بعضاً، لا تختلف احتمالات لجوئهم للغش عن احتمالات لجوء أترابهم الأقل ثراءً له.
وفي ظل هذا التباين الذي يصل إلى حد التناقض، في نتائج الدراسات التي تُعنى ببحث أسباب إقدام البشر على التصرف بشكل سخي أو غيري، يثور سؤال: ماذا عن النظر إلى هذا الأمر في ضوء حقائق ثابتة كتلك المتعلقة بحجم الأموال التي تُمنح للجمعيات الخيرية؟ فهل وارِن بافيت، ذاك الملياردير الذي تعهد بالتبرع بـ 99 في المئة من ثروته يشكل نموذجاً نادراً، أم أنه يعبر عن اتجاه سائد وسط الأثرياء، يدفع الأشخاص الأكثر ثراءً، للتبرع – في المتوسط - بنسبة أكبر من عائداتهم؟ هنا يمكننا المقارنة بين دخل الفرد وما يخصصه منه للتبرع للجمعيات الخيرية.
وبحسب نتائج أول دراسة تناولت العلاقة ما بين الثراء والسخاء، بدا المنحنى البياني المتعلق بهذا الأمر، أشبه بابتسامة مقلوبة، في ضوء ما تبين من أن الأشخاص الأشد فقراً وكذلك الأكثر ثراءً، تبرعوا بنسبة أكبر من دخلهم للأغراض الخيرية مُقارنةً بغيرهم، بينما قلت نسبة التبرع هذه، من قبل الأشخاص الواقعين في الفئة المحصورة بين هؤلاء وأولئك.
غير أن تلك الدراسة، التي جرت منذ فترة طويلة، بدت وقد استثنت من لم يتبرعوا على الإطلاق، وهم عادة الأشخاص الأشد فقراً بكثير، ممن لا يستطيعون التبرع من الأصل. وقد يؤدي إغفال هذه الشريحة إلى جعل النتائج غير معبرة عن الواقع.
ولأخذ هذا العنصر في الحسبان، سعى الباحثون في كلية بوسطن بولاية ماساشوستس الأمريكية، إلى دراسة التبرعات التي يمنحها أشخاصٌ تتراوح دخولهم ما بين 10 آلاف دولار أمريكي و300 ألفاً، ليخلصوا إلى أن معدل التبرع للجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة يدور حول نسبة ثابتة بشكل لافت، تبلغ نحو 2.3 في المئة من الدخل.
ولكن الدراسة كشفت عن أن الشريحة العليا من أولئك الأكثر دخلاً، تحديداً من يزيد دخلهم على 300 ألف دولار ممن شكلوا 2 في المئة من المبحوثين، تبرعوا في المتوسط بما تصل نسبته إلى 4.4 في المئة من دخولهم، وهو ما يجعل بوسع الأشخاص الأكثر ثراءً، الادعاء بأنهم – كمجموعة - أكثر سخاءً فيما يتعلق بالتبرع للأعمال الخيرية.
في المجمل، تُظهر الدراسة التي أجراها الباحثون في بوسطن، أن الأثرياء ليسوا أكثر سخاءً أو تقتيراً منّا جميعاً، باستثناء من منهم أكثر ثراءً.
وقد يحاجج البعض بالقول، إن الأثرياء يتبرعون أكثر لأن قدراتهم المالية تسمح لهم بذلك، ولكن ينبغي إدراك أنه يُحسب لهم أنهم اتخذوا قرار التبرع على الأقل دون تردد.
ولذا ففي المرة المقبلة، التي تصادف فيها ثرياً متردداً في دفع تكاليف مشروباته في مَشْرَبٍ ما، عليك تذكر أن الأمر ربما يكون قاصراً على هذا الشخص نظرا لطبيعته الشخصية، ولا يعود لكون أمواله قد جعلته بخيلاً أو وضيعاً.
وعلى أي حال، كشفت الدراسات التي أُجريت في هذا الشأن، عن أن عدداً كبيراً من الأثرياء يتصفون بالسخاء.
ولكن ربما يكون الدرس الذي يمكن لنا استخلاصه من هذه الدراسات، هو ضرورة العمل على أن نتحاشى التصرف بشعور دفين قوامه أننا نستحق معاملة تفضيلية؛ خاصة إذا ما كنا بصدد لعب "بنك الحظ".