العَلمانية في سطور
المدينة نيوز : مصطلح غربي الأصل ، والنشأة ، والمولد ، ظهر في منتصف القرن الماضي ، ويعني دنيوياً غير ديني ، ويقابله بالانكليزية : secular ، وبالفرنسية : secularise أو Laique ، وهو كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية : نسبة إلى ( العَلم .. بمعنى : العالم ) ، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي ، وهذه تفرقة مسيحية لا وجود لها في الإسلام .. وأساسها : وجود سلطة روحية هي سلطة الكنيسة ..
وسلطة مدنية هي : سلطة الولاة والأمراء ....
والعَلمانيون يُحَكِّمون بوجه عام العقل ، ويراعون المصلحة العامة – حسب زعمهم - ، دون تقيد بنصوص أو طقوس دينية ، وكانوا في الغالب مبعث التطور والتجديد في المجتمعات الغربية ، ولذا كانوا في خلاف مع الكنيسة ورجال الدين ..)( )
وتقول دائرة المعارف البريطانية : ( العَلمانية – سيكوليرزم- secularism ) : ( هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ، وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر ، وفي مقاومة هذه الرغبة ، طفقت ( السيكوليرزم- secularisim )تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الانسانية ، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم بالإنجازات الثقافية ، والبشرية ، وبإمكان تحقيق مطامعهم في هذه الدنيا القريبة . وظل هذذا الاتجاه يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله ، باعتبارها حركة مضادة للدين ، ومضادة للمسيحية ..) ( )
ويقول معجم أكسفورد : ( العلمانية تعني :
أ- دنيوي أو مادي ، ليس دينياً ، ولا روحياً ، مثل التربية اللادينية ، الفن ، الموسيقى اللادينية السلطة اللادينية ، أو الحكومة المناقضة للكنيسة .
ب- الرأي الذي يقول : إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق ، والتربية . )( )
فالعَلمانية - بفتح العين - بالإنجليزية ، أو بالفرنسية ، لا صلة لهما بلفظ العلم ومشتقاته ، فالعلم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة science ، والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة scientism ، والنسبة إلى العلم هي scientific في الانجليزية ، أو scientifique في الفرنسية ، والترجمة الدقيقة للكلمة هي " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " اللادينية " ، ولكن تحولت كلمة عالمانية إلى عَلمانية ، لأن العربية تكره تتابع الحركات وتلجأ إلى التخفف منه ( ) ... ولعل المعنى الصحيح لترجمة كلمة "العلمانية"هى "اللادينية" أو "الدنيوية" لأنها مشتقة من العالَم أي " الدنيا " ( ) ...
ومن هنا فإن العلماني هو الدنيوي لأنه يهتم بالدنيا ، بخلاف الديني أو الكهنوتي ، فهذا الأخير يهتم بالآخرة .... ويتضح ذلك مما تورده دوائر المعارف الأجنبية للكلمة:
تقول دائرة المعارف الأمريكية: "الدنيوية هى: نظام أخلاقي أسس على مبادئ الأخلاق الطبيعية ومستقل عن الديانات السماوية ، أو القوى الخارقة للطبيعة.."( ).
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو : فصل الدين عن الدولة.
وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة( ).
ولم ترد لفظة العلمانية في معاجم اللغة العربية القديمة، بل وردت في بعض المعاجم الحديثة ، ومن ذلك:
أ– ما ورد في معجم المعلم للبستاني: "العلماني: العامي الذي ليس بإكليريكي"( ).
ب- وفي المعجم العربي الحديث: "علماني: ما ليس كنسياً ولا دينياً"( ).
ج- وفي المعجم الوسيط( ) "العلماني نسبة إلى العَلم بمعنى العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي"( ).
وأول معجم ثنائي اللغة قدم ترجمة صحيحة للكلمة هو قاموس " عربي فرنسي " أنجزه
" لويس بُقطُر" المصري التابعية ، عام 1828 م ، وهو من الجيل الذي ينتمي للحملة الفرنسية ، وقد كان متعاوناً مع الفرنسيين ، ورحل معهم إلى باريس ، وعـاش هناك ، وكانت ترجمته لكلمة : cecularite : عالماني ، ولكلمة : ceculier، علـماني ، عالمـاني ، وميـزة هذه الترجمة أنهـا أول وأقـدم ترجمة صحيحـة للكلمة ، تـدحض آراء الذين يعتبرون العَلمانية من العِلم ، لأنه نسبها إلى العالَم ( ) .
وكما أن الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون ، للدلالة على المبالغة الشديدة في التخلق بصفات الرب - عز وجل - والعبودية له ، وللدلالة على كمال الصفة أو بلوغها حداً قريباً من الكمال ، قالوا في كثير الشَّعَر : شَعراني . وطويل اللحية أو كثيفها : لحياني( ( .. كذلك فإن العَلماني منسوبٌ إلى العالَم - بهذا الشكل - للدلالة على المبالغة في الانتماء إلى العالم ، والإيمان به ( ) .
وعندما استقل التعليم عن الكنيسة في فرنسا بعد الثورة الفرنسية ، وُصِف هذا التعليم بأنه ceculaire ، ودلالتها هي نفس الدلالات القديمة التي يوصف بها من هو خارج الكنيسة من عامة الشعب ، فكل واحدة من الكلمات السابقة " دنيوي ، زمني ، دهري… " تصلح مقابلاً للكلمة الفرنسية seculaire ، إلا العِلم فلا يدخل في مدلولاتها مطلقاً ( ) . و هذا التأصيل المعجمي لمصطلح العلمانية في اللغة ، يكاد يكون حاسماً في أن العلمانية من العالَم ، وليس من العِلم ، ولذلك فهي بفتح العين وليس بكسرها ..
أما العلمانية في الاصطلاح: فهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعنى في جانبها السياسي بالذات.. اللادينية في الحكم، وهى اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم ، والمذهب العلمي ( )
ولاشك أن كلمة العلمانية اصطلاح غربي ، يشير إلى انتصار العلم على الكنيسة النصرانية ، التي حاربت التطور باسم الدين( ).ومن هذا يتضح لنا أنه لا علاقة لكلمة العلمانية بالعلم، وإنما علاقتها قائمة بالدين على أساس سلبي ، وهو نفي الدين عن مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية....
وخلاصة القول : إن العَلمانية اسم لمذهب فكري ، عقدي ، اجتماعي ، يهدف إلى حمل الناس على إبعاد الدين عن حياتهم ، ويعمل في مجالات ومحاور عديدة منها :
المحور السياسي والاقتصادي : بجعل القوانين الوضعية هي أساس السياسة ، والاقتصاد ، ولا اعتبار للدين .
المحور الاجتماعي : ويعمل على خلق نظام اجتماعي يستمد قيمه من الفلسفات البشرية دون النظر للدين . وعدم اعتبار الدنيا قنطرة للآخرة – كما يقول الدين الصحيح - ، وقصر اهتمامهم على ملذات الدنيا .
المحور التربوي والأخلاقي : بإبعاد التوجيهات الدينية عن مجالات التربية ، والأخلاق ، واستمدادها من نظم الحياة المعاصرة .
المحور العقدي : ويقوم على الإيمان بالمادة المحسوسة ، ورفض الإيمان بالميتافيزيقا ، أو ما وراء الطبيعة ، أي : بالغيبيات ، وما لا يُدرك بواسطة الحواس الخمس .. ( )
ولعل أوضح تعريف للعلمانية هو ذاك الذي ورد في مناقشات المجلس النيابي الفرنسي لدستور 27/10/1946 وقد جاء فيه: إن العلمانية هي حياد الدولة تجاه الدين...( )
أي أن الدولة لاتلتزم بأي معتقد ، أو دين .. كما أنها لا تخص أي دين باعتراف خاص به... أو بعطف خاص ... أو بمساعدة امتيازيه ... ولا تقوم في نفس الوقت بالدعوة للإيمان بأي دين
فالعلمانية بإيجاز : هي عزل الدين عن الحياة الاجتماعية للأفراد ، وعن شؤون الإدارة ، والتعليم والحكم.
جهود المستغربين في ترسيخ العلمانية
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي سيطرة الاستعمار الغربي على جميع العالم الإسلامي تقريباً... وقد أرادت قوى الاستعمار حين استتب لها الأمر ... أن تعزز انتصاراتها العسكرية والسياسية بانتصار ثقافي وإيديولوجي يضمن لها البقاء في العالم العربي والإسلامي حتى بعد رحيلها العسكري...وذلك بالترويج للعلمانية في المجتمع العربي الإسلامي ليقوم بتنظيم علاقاته الاجتماعية والإنسانية وفقا لمفاهيمها وليس حسب مفاهيم الإسلام.
واستعملوا في سبيل ذلك وسائل ترغيب وخداع كثيرة...لتكوين قناعات تامة لدى جماهير المسلمين بصلاحية الدعوة العلمانية وأحقيتها،ومن ضمن هذه الوسائل :
1- ترجمة المصطلح الذي يدل على( لادينـية ) في اللغات الأوروبية إلى (علمانيـة) ليكون انطباعاً لدى الإنسان العربـي المسلم البسيط ، بأن هذه الدعوة تتصل بالعلم وتنبع منه ... ولو كان المقصود به إقامة الدولة على أساس علمي ، أو إدخال منجزات العلم الطبيعي ، وجعلها في متناول الإنسان في المجتمع... وتيسير حياته وجعلها أكثر بهجة وراحة... فمن السخف بمكان في هذه الحالة تسمية دولة ما بأنها علمانية دون غيرها...وتسمية مجتمع ما بأنه علماني دون غيره...فإن أشد الدول والمجتمعات الدينية تزمتاً ومحافظة لا تمانع في تسيير حياتها المادية بما يوفره العلم من منجزات في شتى الحقول والمجالات ، وإذن فلا معنى لتسمية دولة ما بأنها علمانية ، لمجرد أنها تستخدم منجزات العلم في حياة مجتمعها...وإذا لم يكن الأمر كذلك .. فهل يعني كون الدولة علمانية أن نظامها الإداري، ونظامها الإقتصادي يقومان على أسس علمية .. ؟؟!!
فالدولة الفلانية لا تدير شئونها وشئون اقتصادها على نحو عشوائي غير مخطط وغير مدروس ، وإنما تتبع في ذلك أصول وأساليب العلوم الإدارية ، وأساليب العلوم الاقتصادية فتبنى إدارتها واقتصادها على أساس من ذلك.
فمن الوضوح بمكان أن أشد الدول والمؤسسات الدينية لا تمانع لأسباب دينية في تنظيم إدارتها وشئونها المالية والاقتصادية على أسس علمية ، تضمن لها أكبر قدر من الإنتاجية...بل تسعى إلى ذلك وتكلف الخبراء لتنظيم شئونها ، على أفضل الأسس والأساليب التي توفر لها زيادة في الإنتاج مع إتقان في العمل...ومن السخف كذلك وصف دولة ما أو مؤسسة ما بالعلمانية ، لمجرد أنها تتبع أساليب علمية في الإدارة وغيرها من شئون التنظيم.
إن العلم الطبيعي ، وتنظيم العمل ، وأساليب الإدارة أمور مشاعة في كل المجتمعات وكل الدول .. ولا يوجد دين كما لا توجد مؤسسة دينية-في هذا العصر على الأقل- يقفان في وجه العلم الطبيعي ، أو يرفضان بناء إدارة ومؤسسات ذات إنتاجية عالية لأسباب دينية محضة.. فالعلوم الإدارية والطبيعية محايدة من هذه الجهة.. ليست مع الدين وليست ضده، وهذا من الأمور الواضحة للعيان .. فيما أمامنا من دول ومؤسسات ليست علمانية بالتأكيد ...إذن فالعلمانية لا تعني هذا ولا ذاك... وإنما تعني شيئا آخر غيرهما...وهو عبارة عن أمرين متكاملين...ولا تكون الدولة علمانية بدونهما.. وهما :
الأول:مصدر الشرعية في السلطة السياسية.
الثاني:التشريع الدستوري والقانوني في الدولة.
وبالنسبة للأمر الأول:تعني العلمانية أن الشرعية التي تخول السلطة السياسية أن تحكم المجتمع وتسيره وفقاً لمفاهيمها وخططها ليست مستمدة من الدين...فالدين ليس مصدرا للشرعية التي تتمتع بالسلطة السياسية في الدولة العلمانية..ولا تتوقف شرعية السلطة السياسية على أن تنال اعترافاً بها من السلطة الدينية.
وقد يكون هذا منسجماً مع العقيدة المسيحية...لأن تدخل الكنيسة في شئون الدنيا والحكم والسلطة ، لم يكن فكراً مسيحياً...وإنما هو من تصرفات الكنسيين اللذين أقحموا كنيستهم في هذا الميدان...لأن العقيدة المسيحية في صفائها الأول .. تبتعد عن السياسة وتترك ما لقيصر لقيصر..وما لله لله...بينما الإسلام يتصل بشؤون الدنيا .. وينظم بمبادئه علاقاتها...ففي الدعوة للعلمانية نوع من العودة لجوهر المسيحية في إيمان المسيحي ولكن في العلمانية نوع من الإفقاد لبعض جوهر الإسلام في يقين المسلم...حسب قول الأستاذ طـارق البشري .
فالدعوة للعلمانية كذلك منحازة لرؤية الأقلية الدينية على حساب رؤية الأغلبية ثم أن التاريخ الأوروبي عرف نوعا من السلطان الدنيوي للكنيسة ورجال الدين..لدرجة أن البابا(غريغوريوس السابع)أعلن أن الكنيسة هي صاحبة السيادة في العالم كله.. !! وأنها تستمد نفوذها من الله مباشرة ومن غير حجاب ! وأنها معصومة ولا تخطئ ولا تضل أبدا... وأن الإمبراطور ليس كما يدعي انه ظل الله في الأرض ، لأنه إنما يعتمد على القوة الغاشمة،بل قد أراد هنري الرابع أن يستقل عن الكرسي الرسولي ، وأن يعين الأساقفة بنفسه...فعلم بأمره البابا(غريغوريوس)فغضب عليه ..وأصدر قراراً في سنة 1075م يحظر على الملك هنري الرابع تعيين الأساقفة ، فرد عليه الملك المذكور بقرار مقابل يقضي بإسقاط البابا عن كرسيه في روما ... ولكن البابا أجابه بقرار مقابل يقضي بإلقاء(الحرمان) على الملك ومنعه من الحكم...وأحل جميع المسيحيين من الولاء المعقود له ، ويدعوهم أن لا يعترفوا به كملك..فسرعان ما تقيد الناس بأمر البابا...ورأى الملكُ نفسهُ وحيداً منبوذاً...فاضطر في " 27/1/1077 م " أن يذهب إلى " قصر كانوسا "حيث كان يقيم البابا غريغوريوس السابع..بعد أن ارتدى ثوبا من الشعر ، وانتظر على باب القصر راكعاً على الثلج حافي القدمين-تماماً كما طلب منه البابا-ليطلب منه غفران إساءاته...وأخيرا أمر البابا بإدخاله..وبعد أن طلب منه العفو رفع (الحرمان)عنه...واعترف به كملك.. فعاد وتولى عرشه !!
بل أصبح لرجال الدين المسيحي محاكم خاصة ، ولهم أملاك عقارية خاصة ، وسجون رهيبة ، ويفرضون الضرائب على الشعب ، وأصبحت الكنيسة دولة دينية داخل دولة مدنية وأخذت تمنح صكوك الغفران لمن ترضى عنه ، وتُقطِعُ مساحات شاسعه في الجنة لمن تشاء ، وتشن حروباً دينية على المسيحيين المخالفين لعقيدتها ، حتى أنها في عام 1571 تم بفضل الكنيسة وتسامحها ذبح آلاف المسيحيين البروتستانت في ليلة واحدة ، وراحت تنشئ محاكم التفتيش الطاغية... التي كان من أخف أحكامها : الحرقُ ، والسجن المؤبد ، والنفي والتعذيب..حتى بلغت ضحايا هذه المحاكم الدينية منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن الثامن عشر.. ما يزيد على تسعة ملايين نسمة !!
ولهذا جاءت العلمانية لتقاوم هذا السلطان ، وهو سلطان كان يمثل نُتوءاً شاذاً في العقيدة المسيحية..بينما المجتمع الإسلامي لم يعرف في تاريخه سلطة لأي مؤسسة دينية تماثل سلطة الباباوية الكاثوليكية في القرون الوسطى..
فالازهر مثلاً..له مكانة في نفوس المسلمين..وهو أكبر وأقدم موئسسة دينية إسلامية في العالم الإسلامي ..ومع ذلك لم تكن له سلطة ما على الحكومات المتعاقبة في مصر...منذ عهود طويلة غابرة وحتى العصر الحاضر..ولو رجعنا الي الثَّبت الذي نشره (مركز وثائق تاريخ مصر الحديث) عن النظارات والوزارات المصرية ، من أول هيئة عام 1878م إلى قيام الجمهورية المصرية عام 1952م ، يلاحظ أن أزهريا واحداً ..أو ذا تعليم ديني ..لم يتول أية وزارة لاية مدة طوال ثلاثة أرباع القرن...اللهم إلا أربعة أزهريين..وهم:الشيخان مصطفى عبدالرزاق وعلي عبدالرزاق ، والشيخ محمد فرج السنهوري ، والشيخ أحمد حسن الباقوري.
وذلك من جملة عدد الوزراء الذين يبلغ عددهم في هذاه الفترة (298 ) وزيراً..
وهؤلاء الأربعة..لم يتولوا إلا وزارة الاوقاف..التي تشرف على الأوقاف الإسلامية وشئوون المساجد..فكان تعيينهم فيها أشبه بالتعيين الطائفي..ولم يحدث قط أن تولى شيخ أو ذو تعليم إسلامي ، ولا هؤلاء الأربعة السالف ذكرهم وزارة أخرى..حتى ولا الوزارات التي تؤهل المثقفين ثقافةإسلامية لتوليها كوزارة العدل التي تضم المحاكم الشرعية ، أو وزارة المعارف.
وحتى وزارة الاوقاف التي أنشئت عام 1878 م وألغيت عام 1884م ثم أُعيدت عام 1913 م ...فإنها على مدار( 45 )سنة من وجودها الى عام 1953م ، لم يتولاها وزير شيخ إلا هؤلاء الأربعة..وباقي وزرائها – وعددهم( 48 ) وزيراً - كانوا مدنيين..وحتى هؤلاء الأربعة لم يزد مجموع شغلهم لها إلا نحواً من سبع سنوات ونصف....كما أن الشيخان مصطفى عبدالرزاق ، وعلي عبد الرزاق، لم ترشحهما للوزارة مشيخة الأزهر..بل تولياها رغماً عن مشيخة الأزهر..فقد كان أقرب إلى جيل الموئسسات الحديثة فكرياً واجتماعياً..إذ تلقى الأول قسماً من تعليمه في فرنسا..والثاني في انجلترا..وسلك كلاهما من الأعمال ما يبعدهما عن موئسسة الأزهر..وكانا من ركائز الدعوة للتحديث الفكري بالمعنى الشائع في وقتها..وكان مركزها ومركز أسرتها في (حزب الأحرار الدستوري) ، وهو المرشح الأساسي لهما.. وارجع لكتاب الحياة النيابية والأحزاب في مصر ( ) لتعرف حقيقة هذا الحزب.
وجملة المدة التي تولياها في الوزارة تبلغ نحواً من ستة سنوات ونصف..أما الشيخ فرج السنهوري فتولى الوزارة شهرا واحد .... والشيخ الباقوري عشرة أشهر..وبعد ثورة 1952 م اطرد على نحو ما .. تولي ذو تعليم ديني وزارة الأوقاف ، ووزارة شئون الأزهر حسبما أضيف إلى اسمها..ولكن لما يجاوزها واحد من هؤلاء إلى غيرها قط..
فالإسلام -كماأسلفنا- لم يعرف سلطة لهذه الموئسسة في تاريخه الطويل..كالتي كانت للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى... فلماذا نأخذ حلاً لمشكلة ليست عندنا ؟!
أما بالنبسة للامر الثاني :-
فتعني العلمانية لدى دعاتها: ان يقوم التشريع القانوني والدستوري في المجتمع والدولة على اسا غير ديني.. ويشمل ذلك كل مشارع التشريع بما في الاحوال الشخصية للفرد والعائلة من زواج وطلاق وما يتفرع من ذلك ويعود اليه.
وثمة سمة أخرى للدولة العلمانية متفرعة عن هذا الجانب التشريعي وهي أن القيم والأخلاق الدينية لا تعود موضع اعتبار واحترام من وجهة النظر الحقيقية للدولة..وإذا كانت أجهزة الحكم في بعض الحالات تتضاهر بالغيرة.. فذلك فقط لإسكات الرأي العام... إذا كانت لا تزال لدية بقية من الإحساس بالقيم ... والاخلاق الدينية.
ونقول:- اذا ثار المصلحون وعامة الناس على الدين المحرف وعلى رجال الدين المسيحي الذين اكلوا اموال الناس بالباطل وباسم الدين وطالبو الكنيسة ان تلازم حدودها المعروفة على عهد المسيح-عليه السلام- بتهذيب اخلاق الناس فحسب...وتطبيق مفهوم تعليم الانجيل(بترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله) إلا أن هذا الأمر لا ينطبق-كما أسلفنا- بحمله على الإسلام..لأن الإسلام جاء منظما لجميع شئوون الحياة ..وليس علماء الإسلام في الدولة الإسلامية إلا فئة اختصت ببعض الدراسات الدينية ، لهم ما للأمة..وعليهم ما عليها ، ولا يفضلون أي فرد إلا بالعلم والتقوى.
وقد علق الامام محمد الخضر حسين-شيخ جامعة الأزهر- على مطالب بعض الببغاوات المرددين للفكر الغربي بقوله: ( إن الذين يدعون الى فصل الدين عن السياسة فريقان:
فريق يعترفون بأن للدين أحكاماً تتصل بالقضاء والسياسة.. ولكنهم ينكرون أن تكون هذه الأحكام كافلة بالمصالح..آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب..ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدين وأصوله..وقبلوا أن يسميهم المسلمين بالملاحده.
ورأى فريق آخر أن الاعتراف بأن في الدين أصولاً قضائية .. وأخرى سياسية ثم الطعن في صلاحيتها إيذاناً بالانفصال عن الدين ، وإذا دعا المنفصل عن الدين إلى فصل الدين عن السياسة .. كان قصده مفضوحاً وسعيه خائباً..فاخترع هؤلاء طريقاً حسبوه أقرب إلى اتجاههم وهو أن يدَّعوا أنَّ الاسلام توحيد وعبادات..ويجحدوا أن يكون في حقائقة ماله مدخل في القضاء والسياسة..هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة..)
وفي معرض رده على أولئك المضللين من دعاة فصل الدين عن الدولة يقول:-(وفي القران أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات ، كأحكام البيع ، والربا ، والرهن ، والدين ، والإشهاد ، وأحكام الزواج ..والطلاق ...واللِّعان ... والظهار ... والحجر على الأموال .. والوصايا ..والمواريث.... وأحكام القصاص... والدية ...وقطع يد السارق ...وجلد الزاني.. وقاذف المحصنات..وعقاب الساعي في الأرض فساداً..بل في القرآن آياتٌ تحث على الجهاد ... وهذا يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة ، إنما تصور ديناً آخر فسماه الإسلام...)
وفي نهاية مقاله يبين فضيلته حقيقة الداعين للعلمانية في بلاد المسلمين بقوله:
(فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين .. ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين). ( ) . إذن فحقيقة الدولة العلمانية وجوهرها تقومان على أن تكون شريعة السلطة السياسية فيها مستمدة من الشعب..ومن ثم فإن هذه السلطة لا تستمد شرعيتها من الدين..وأن يكون تشريعها قائما على أساس غير ديني.
وهذا يعني: أنه بدلا أن يعود الناس أو السلطة الحاكمة في شأن وضع القوانين والشرائع المنظمة للمجتمع والدولة إلى الدين..يستوحون من مبادئه أحكامهم وشرائعهم ونظمهم..فإنهم يرجعون في هذا الشأن إلى عقولهم..أو عقول طائفه منهم..وما ترى هذه العقول ملائماً لمصالحهم بحسب إدراكهم لهذه المصلحة..الآنية والمستقبلية..فيشرعون لأنفسهم على ضوء إدراكهم هذا..وقد بينا في الصفحة الاولى من هذا البحث عدم مقدرة العقل على ذلك..لأن العقل قد يضل أو يزيغ..وقد يرى حسناً ما ليس بالحَسَنِ..فلا بد له من هادٍ وحاكم وهو الشرع..
2-ومن شر وسائل الخداع والتمويه والتلبيس التي استعملها لإيجاد المناخ الذهني والنفسي الملائم لغرس العلمانية في المجتمع الاسلامي...ترويج المفهوم الغربي المادي للدين..وهو المفهوم الذي يعتبر الدين شأناً شخصياً كشئون الإنسان الأخرى الروحية والنفسية والعقلية..ولا شأن له ولا علاقة بالحياة وتنظيمها..والمجتمع وعلاقاته.. فأدخلوا في أسس الثقافة الجديدة للمسلمين مفهوم: دين ودنيا ... وإذا كان الدين حسب مفهومه الغربي المادي شأناً شخصياً بحتاً لا شأن له بالحياة ولا المجتمع.. فإن الدنيا تكون خارج إطار الدين ونظمه وتعليمه ، وتنظم بالعلمانية... وهذا المفهوم مضاد للمفهوم الثقافي الإسلامي في هذه المسألة ، فالدنيا حسب المفهوم الاسلامي لا تقابل بالدين ، وإنما تقابل بالآخرة.. فيقال :دنيا وآخرة ،والدين يُنظِّم حركة الإنسان في الدنيا ، ليتحقق له المصير الحسن في الآخرة..والدنيا في الإسلام مزرعة الآخرة.
ومن حججهم الرئيسة أيضاً قولهم : إن هناك طوائف دينية تعيش معنا في الوطن... فتعصب الدولة لدين معين كالإسلام مثلاً..يضر بمصلحة الطوائف الأخرى...
فالعلمانية تبدو في ظاهرها صيغة محايدة..لأنها تستعبد كلاً من الإسلام ، أو المسيحية ، أو اليهودية عن شئون الدنيا .. وتقيم النظم والقوانين على أساس لا يمت لها بصلة ، ولكن استبعاد الدين عن تنظيم المجتمع الإسلامي ، لا ينتقص من اليهودية أو المسيحية كعقيدة ، بينما هو ينتقص من الإسلام بعض جوهره..
وكما ألمحنا فيما سلف ، فتحكيم العلمانية هنا... من شأنه أن يُسفر عما أسفر عنه التحكيم الشهير – لو صح - بين أبي موسى الأشعري، وعمرو ابن العاص...-رضي الله عنهما - ..
ثم إن الطوائف غير الإسلامية...واليهودية بالذات..عاشت أزهى عصورها في الدولة الإسلامية العربية...بل وجد المسلمون أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه ، فمعظم وظائف الإدارة العليا في الدولة كالوزراء ، ورئاسة الدواوين ، وولاية القاليم ، وأطباء الخاصة من ولاة الأمر في يد أهل الذمة ، الذين تعصبوا لبني ملتهم من اليهود والنصارى ، وعينوهم في كثير من فروع الإدارة ، ومنعوا المسلمين – وهم الأغلبية العظمى في البلاد – من تولي تلك المناصب .. وقد ترتب على ازدياد نفوذ الموظفين الذميين ، وإغراق الدواوين بهم _ وبخاصة في خلافة العزيز بالله الفاطمي ،أن تولد شعور بالكراهية بينهم وبين الموظفين المسلمين ، وترك ذلك صداه في نفوس الرعية ، مما حدا بالشاعر : الحسن بن بشر الدمشقي – أحد شعراء مصر إبان خلافة العزبز بالله الفاطمي- أن يصور هذه الظاهرة بأسلوب ساخر ، فقال :
تنصَّر فالتنصر دين حقٍ ....................عليه زماننا هذا يدلُّ .
وقل بثلاثة عزُّوا وجلُّوا ............وعطِّل ما سواهم فهو عُطلُ .
فيعقوبُ الوزيرُ أبُ، وهذا العزيزُ ابنٌ ، وروحُ القُدسِ فَضلُ . ( )
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل نال المسلمون كثيراً من الظلم والأذى على أيدي المسئولين من أهل الذمة .. حتى كان المسلمون في مصر يحلفون بهذه العبارة: ( بحق النعمة على بني اسرائيل ).. وهذا ما حدا بالشاعر " الرضى ابن البواب " أن يقول : -
يهود هذا الزمان قد بلغوا ....... نهاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهــم ... ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر قد نصحتُ لكم ........ تهودوا فقد تهود الفلك . ( )
وقال الشاعر ابن الخلال- في النصارى الذين ضايقوا المسلمين في أرزاقهم وتولوا أمر الكتابة في الدواوين- هذه الأبيات التي تبين المكانة الي وصل إليها النصارى في ديار
المسلمين :
إذا حكم النصارى في الفروج ... وغالو بالبغال والسروج
وذلَّت دولة الاسلام طــراً ... وصار الأمر في أيدي العُلوج
فقل للأعور الدَّجال هـذا .... زمانك إن عزمت على الخروج ( )
وقال الشاعر ابن الحاج - في النصارى واليهود الذين احتكروا الوظائف المالية والطبية في الدولة الاسلامية - الأبيات التالية :
لُعِنَ النصارى واليهود فإنهم .... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا
خرجوا أطباء وحساباً لــكي ... يتقسموا الأرواحَ والأموالا ( )
فالطوائف غير الأسلامية عاشت أزهى عصورها في دولة المسلمين ، إذ كانت معظم المناصب الرئيسية في أيديهم.... فالاسلام لم يضر بمصلحة الطوائف غير الإسلامية فيالدولة الإسلامية ، والإسلام الذي حكم ألف سنة متتالية لو كان يضطهد الأقيليات الدينية .. أو كان يقيم محاكم تفتيش كالكاثوليك في إسبانيا ..لما بقي في بلادنا مسيحياً أو يهودياً واحداً..
إذن ...فالهدف الحقيقي من المناداة بهذه الفكرة .. فكره العلمانية هو فصل الدين عن الدولة ، بل عن الحياة في بلاد المسلمين ...بعد أن تم فصله في بلاد المسيحية..وتضافرت جهود النصارى واليهود والماسونيون على اختلاف اتجاهاتهم وانتمائاتهم الحزبية من قومية وأممية..وأخذوا يطالبون بعلمانية الدولة تمهيداً لعلمانية المجتمع..وغير مستغرب منهم ذلك..اذ ليست عندهم عقائد ثابتة يحرصون عليها...وأهم شيء عندهم هو إبعاد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم..ليصبحوا حيارى لا دليل لهم..عليهم من ثياب الذل ألوان...
وبعد:
لقد بقيت لنا كلمة أخيرة نهمس بها في أذن المنادين بالعلمانية في عالمنا العربي..هل نجحت العلمانية في تركيا؟ وهل أصبح المواطن التركي بعد حوالي نصف قرن من فرض أتاتورك العلمانية.. ؟وهل تغيرت نظرته لليوناني والأرمني؟ هل زال التخلف الروحي والحضاري والثقافي من تركيا بمجرد ترجمة القانون المدني السويسري، والقانون التجاري الفرنسي.. وتطبيقهما ضمن التراب التركي..؟
وهل أزالت العلمانية الخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا وكويبك وغيرهما من المناطق الساخنة في الاتحاد الاوروبي..؟ وهل أفلحت العلمانية في تقريب الفجوة بين السيخ والهندوس في الهند..؟ وهل انتشلتها من وهدة الجوع والفاقة ..؟
إن البلاد التي طبقت العلمانية منذ وقت طويل في أوروبا وأمريكا نجد الإنسان المعاصر فيها يعيش أزمة نفسية حادة ، بلغت أقصى حد من التوتر والقلق...وأصبح يشعر بالضياع
إزاء هذا التقدم التكنولوجي السريع..ولم يعد يدري تماماً أين المصير..؟
والأخطر من ذلك أن الاختلاف الكبير بين التقدم العلمي والتكنولوجي ، والتقدم البطيء في ميدان الوعي والقيم والاخلاق ، قد تسرَّبَ أثره إلى الجامعة ومراكز البحث..فالإنسان الأوروبي المعاصر...في حالة فكرية مريضة بداء: الغُربة ، والغَثيان ، والعبث ، والتمرد ، واللاّمعقول ، والمادية..
وليست حركات الشباب المتمرد على المجتمع وقيمه ومثله الدينية ، كجماعات الهيبز والجملر ، والتافهين وغيرهم ، إلا تعبيراً عن هذه الحالة..فأصبحت غالبية المجتمعات الأوروبية مستنقعات بشرية وأوحال إنسانية..لا تحيا فيها إلا الشهوات الرخيصة والهابطة..
هل هذه حضارة؟ هل هي معرفة ؟..كلا..بل إنها عذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة..
إن ما يمر به العالم الغربي من خواء روحي هو تفسير لقوله تعالى(نسـوا الله فأنساهـم أنفسهم) .... وقد تنبأ كثير من المفكرين أمثال(توينبي)و(كولن ويلسون) بسقوط هذه الحضارة..بل كتب أحدهم كتاباً أسماه : ( سقوط الحضارة ) ..
ثم إننا نجد الكثير من كبار المفكرين الباحثين عن السعادة..يتوصلون بعد دراسة جادة إلى الإسلام..
فيقبلوا على المنهج الإسلامي في الحياة ... ويرون فيه منجاة من كل ما يعانونه من عذاب نفسي.. ويعيشون فيه من خوف وخطر ..
لذلك رأى دهاقنة الاستعمار في الإسلام خطراً على مصير زعاماتهم ، وحضارتهم.. فحركوا ذيولهم لتقويض أركانه..والقضاء على أتباعه ، ودعاته ، ومراكزه..خاصة بعد صحوة الشباب المسلم في العالم الإسلامي على الالتزام بتعاليم الاسلام ،...ذلك أنهم توجسوا خيفة من مستقبلهم في هذه الدول التي استيقظ فيها الشباب المسلم ، وبدءوا يحسبون للإسلام كل حساب ،ولقد كان ذلك أخطر في عيونهم من أي تيقظ ديني في الغرب .. حيث لا يصيبهم ضر إذا عمَّ هذا الوعي هناك ، لذلك فهم لا يبالون بالمجهودات الدعوية التي تبذل في عواصم الغرب ، كما يقلقون للصحوة الدينية في دول العالم الإسلامي..نظراً الى ما يرتبط بها من مصالحهم السياسية ، والاقتصادية ، والحضارية كذلك..واعتقاداً منهم في أن أرض الغرب قد نَبَت بتلك المصالح..ولم تعد صالحة للنمو والازدهار ، بحكم الطبيعة الفكرية السائدة..ومن هنا كان للغرب وأعوانه..صولات وجولات في العالم الاسلامي بكامله..فظهر في جميع بلدانه وأجزائه بوجه كالح..يزرع بذور الخلاف الطائفي والقبلي والحقد في نفوس المسلمين..لأن الفرقة والانشقاق هما الطريق الوحيد للتوصل الى الغرض المطلوب..ولئلا يستطيع الدين القيام بدوره في المجتمعات الاسلامية..
وحشدوا جميع طاقاتهم وإمكاناتهم لتغيير مفاهيم الدين واثارة الشكوك في أصالته..وزرع الشبهات في نفوس المسلمين حول صلاحية بقائه في هذا العصر المتطور.. المتفوق في علومه التجريبية ، وصناعته المدهشة ، وتقنيته السريعة التي غطت جميع مناحي الحياة ..
ثم شغلوا المسلمين في كل بلد بمشكلات سياسية واجتماعية كثيرة ، وجعلوهم من العجز والتخلف بحيث لا يستطيعون أن يرفعوا روؤسهم إلى عملٍ بنّاء ، فضلا عن تطلعهم إلى دفة القيادة العالمية ..ثم ركزوا على كبت الشخصية الإسلامية..وطمس معالم الدين البارزة ، وخصائصه ، وسماته البينة أكثر من أي شيئ آخر .... لانهم يعلمون عن تجارب عملية أن أخصَرَ طريق وأسهله للقضاء على أمة هو : قطع صلتها وروابطها بتاريخها وتراثها..
وفصلهاعن خصائصها وسِماتها ، وتهوين شأن العقائد والقيم الإيمانية التي يقوم عليها بناؤها الخلقي والاجتماعي ، ولكن العودة الملحوظه نحو الدين..وصحوة شباب الاسلام في معظم البلاد الإسلامية وخارجها ... بعثت يأساً كبيراً في نفوس زعماء الهدم والفساد..وقد جنَّ جنونهم آخر الأمر..فالتجأوا إلى إشعال نار الفتن والحروب بين الدول الإسلامية الشقيقة ، كما شاهدنا في الحرب العراقية الإيرانية...وكالعدوان الصارخ على أفغانستان وشعبها المسلم..والعدوان على الكويت ، ثم على العراق .. وما ألمَّ بشعوبها المسلمة ... وكالخلافات بين المسلمين في الشمال الإفريقي..وما مجازر صبرا وشاتيلا .. وقانا .. وبحر البقر ..بخافٍ على أحد ..
إلى غير ذلك من الحقائق الصارخة التي يشاهدها كل من له عينان ، ولا تخفى على كل عاقل...ولا يصعب عليه أن يدرك النوايا التي تختفي وراءها ، وما ذلك كله إلا لأن الإسلام
بدأ يخرج من زاوية الخمول.. وأخذ يتطلع الى منصة القيادة العالمية..ويتحدى القيادات المادية والفلسفات العالمية ، أن تأتي بمواصفات السعادة الحقيقية للإنسان في هذا العالم الحديث...كالتي يأتي بها الإسلام..والتي لن يجدوها إلا في الإسلام..
ويوم يكتشف الوعي الإنساني حاجته الى المواءمة بين تقدمه العلمي المادي والروحي.. سيجد الإسلام في انتظاره.. يمنحه حضارة المادة.... وحضارة الروح..ويهدية إلى سواء السبيل..
وعلينا أن نتذكر أن دورنا مع حركة التاريخ وصنع الحضارة لا يزال قائماً..وأننا أغنياء جداً بما لدينا من تراث ، ومبادىء ، وقيم ، ولا حاجة لنا إلى جِيَف الشعارات التي يأتينا بها المهزومون فكرياً من أبناء أمتنا...سواء أكانوا علمانيين كذبة ، أم حداثيين مدلسين ... غير أن ذلك لا يمنعنا أن نفيد من كل فرص التقدم النظيف ، دون أن نسلم رقابنا للأغلال ، وديننا للضياع ، وروحياتنا للجفاف.. ..وعلينا أن نؤمن بأن الإسلام الذي نحمل لواءه لم ولن ينتهي دوره في ترشيد الحياة.. وهداية البشر .. كما لن تنتهي حاجة البشرية له.. كما علينا أن نعمق إيماننا بأن الاسلام:دين ودولة....حقٌّ وقوة.....ثقافة وحضارة..عبادة وسياسة..ولعل ما أوردناه في هذه العُجالة .. يردعُ الجاهلين .. ويُخجل المتشككين.. ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.. ) (الصف:8)
د. سامي عطا حسن
الهوامش
[1] - انظر معجم العلوم الاجتماعية مادة ( علماني ) : تصدير ومراجعة الدكتور إبراهيم مدكور ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
[1] - Ency. Bribunnica vol . ixp . 19
[1] - oxford advanced learners dic. Of current English : 785 .
[1] -. انظر بحث الدكتور أحمد إدريس الطعان عن ( العلمانية ...بكسر العين ، والعلمانية بفتحها ، في موقع
( ملتقى التفسير ) على الشبكة العنكبوتية .
[1]- انظر قاموس المورد لمنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت 1977م.
[1] - منير البعلبكي : قاموس المورد ، ص : 510، 517 ، 518 ، 527 . دار العلم للملايين ، بيروت .
[1] -انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة د/ علي جريشة ص 85 نقلاً عن المجلد 24.
[1]- انظر: العلمانية لسفر الحوالي ص 23.
[1] -معجم المعلم بطرس البستاني، والكيرُس أو الإكليرَس: جماعة مفرزون ومكرّسون لخدمة الكنيسة المسيحية كالشمامسة والقساوسة والأساقفة ويقابلهم العلمانيون، يونانيتها: كليرس ومعناه قُرعة؛ لأنهم كانوا في القديم ينتخبون بالقرعة، الواحد إكليريكي جمعه كليريكيون، ويلاحظ أن المعلم بطرس البستاني لم يضع لفظة علمانيين في مادة (ك ل ي) ولكنه وضعها في مادة (ع ل م). انظر:جذور العلمانية، دكتور السيد أحمد فرج ص154.
[1] -المعجم العربي الحديث د/ خليل الجسر.
[1] -المعجم الوسيط ( 2/624 ).
[1] -الكهنوت: خدمة أسرار الكنيسة - سريانية معربة - والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كتاء ملكوت وجبروت، ودرجاته ثلاث: الشماس، والقسيس، والأسقف، ومراتبه كثيرة منها: القاري، والخوري، والمطران، والبطريرك، والبابا، وفعله:كهَنَ، وتكهّن تكهُّناً فهو كاهن، ج: كهنة. انظر:جذور العلمانية المرجع السابق، ص 151، نقلاً عن قاموس الأسقف جرمانوس فرحات ط سنة 1849 م في مدينة مرسيليا الفرنسية.
[1] - انظر د. أحمد فرج : ص 138.
[1] - الكتاب : لسيبويه ، ج3: ص 280. الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1977م .
[1] - د. أحمد فرج : جذور العلمانية : ص 143.
[1] - انظر :جذور العلمانية ، د. أحمد فرج : ص 146.
[1] - انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 367.
[1] - انظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص 103.
[1] - انظر : العلمانية والاسلام بين الفكر والتطبيق ، د. محمد البهي . وتهافت العلمانية ، د. عماد الدين إسماعيل . والعلمانية نشأتها وتطورها . د. سفر الحوالي . والتيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن ، د. منى محمد بهي الدين الشافعي . ومقالات د. أحمد إدريس الطعان عن العلمانية في الشبكة العنكبوتية .
[1] - انظر : جوزيف مغيزل ، العروبة والعلمانية ، ص 21. دار النهار للنشر ، بيروت ، 1980م.
[1] - تأليف جاكوب لاندو : ص171 وترجمة سامي الليثي .
[1] - رسائل الاصلاح : ج1: ص 65
[1] - ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ،ج7: ص 176. القاهرة ، 1353هـ.
[1] - السيوطي ، حسن المحاضرة :ج2، ص 153.
[1] - المقريزي ، الخطط: ج1، ص 405.
[1] - أهل الذمة في مصر : د.سلام شافعي ، ص 91.