نتائج العملية التركية في جرابلس
بعد مرور شهر بالكاد على صدمة انقلاب الخامس عشر من يوليو/تموز الفاشل، شنَّت تركيا عملية عسكريةً في سوريا، فهجمت وحدات من الجيش السوري الحر، مصحوبة ومسلحة من قبل الجيش التركي، هجوماً مباغتاً استولت فيه على مدينة جرابلس الحدودية، دافعة "الدولة الإسلامية" (داعش) غرباً تجاه منطقة الباب ومتقدمة ناحية الجنوب والغرب.
دعمت الولايات المتحدة الأميركية تلك العملية لفظياً في البداية، حتى إن وزارة الدفاع الأميركية قد عرضت على تركيا، وفقاً لأحد التقارير، إمكانية القيام بعمل مشترك يشارك فيه 40 من القوات الخاصة الأميركية "الكوماندوز"، وهي الخطة التي قيل إنها لم تنفذ بسبب الاستجابة البطيئة للبيت الأبيض، ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة الأميركية قد استجابت مع العملية في مراحلها المبدئية.
ودعا المسؤولون الأميركيون وحدات حماية الشعب الكردية، والمنظمة الشقيقة لها، حزب العمال الكردستاني في سوريا، للانسحاب إلى شرق نهر الفرات، وهددت بسحب دعمها لها حال عدم استجابتها لهذه المطالب.
ومع ذلك فقد غيرت الولايات المتحدة الأميركية لهجتها بمرور الوقت، فدعت تركيا إلى عدم الاشتباك مع وحدات حماية الشعب الكردية، وحثتها بدلاً من ذلك على التركيز على العدو المشترك (داعش).
وعبر كل من وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، والبيت الأبيض عن استيائهما من استهداف تركيا لقوات حماية الشعب الكردية.
وبحلول الثلاثين من أغسطس/آب، ادعت الولايات المتحدة أن قد توصلت إلى اتفاق "فضفاض" لوقف القتال بين القوات التركية وقوات التحالف الديمقراطي السوري الذي تسيطر عليه وحدات حماية الشعب الكردية، وهو الادعاء الذي نفاه مسؤولون أتراك بقوة.
الهدف من العملية
يبدو أن لتركيا أهدافاً أربعة من وراء تنفيذ هذه العملية:
أولاً: تريد تركيا أن تمنع حزب الاتحاد الديمقراطي من إنشاء اتصال جغرافي بين كانتوناته، ذلك أن الفجوة الوحيدة المتبقية بين الأراضي التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي على الحدود التركية يقع بين كوباني وعفرين، وهو ما يشكل الهدف الاستراتيجي وراء تلك العملية.
ثانياً: تأمين ممر حلب من القوات المتحاربة، سواء كانت تابعة لوحدات الحماية الكردية أو داعش.
ثالثاً: تهدف تركيا إلى محو وجود داعش، التي شكلت تهديداً أمنياً واستراتيجياً مباشراً لها، من منطقتها الحدودية.
رابعاً: عن طريق إزالة داعش من تلك المنطقة، ووقف التوسع الغربي لوحدات حماية الشعب الكردية، فإن تركيا تهدف إلى خلق متنفس للمعارضة السورية، التي كانت سابقاً محصورة بين داعش والنظام السوري ووحدات حماية الشعب الكردية.
النتائج
لقد أوقفت تلك الخطوة التركية، بشكل فعال، تمدد وحدات حماية الشعب الكردية غرباً، قبل العملية، كانت وحدات حماية الشعب الكردية تأمل في الوصل بين كانتوناتها في كوباني وعفرين، ومن ثم خلق دويلة متصلة على الحدود التركية، وتلك احتمالية كانت تركيا قد أشارت منذ وقت طويل إلى اعتبارها خطاً أحمر يستدعي تدخلاً عسكرياً.
وعلاوة على ذلك، فإن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، ووزير الخارجية التركي، سيرغي لافروف، قد التقيا في السادس والعشرين من أغسطس لمناقشة الوضع السوري.
وبينما قدم الطرفان بارقة أمل على تسوية سلمية للوضع في سوريا، فقد قال كلاهما بوضوح إنهما سوف لن يدعما الاستقلال الكردي في سوريا، مشددين بدلاً من ذلك على الحاجة إلى الحفاظ على وحدة أراضي البلاد.
ومع أنه لا شيء جديد في ما يتعلق بتلك النقطة، فإن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، قد أصبح، الآن، الموقف الرسمي للجميع، بما في ذلك حزب الوحدة الديمقراطي. وقد أشادت تركيا بدورها على الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة، الذي يعكس موقفها الرسمي.
ومع ذلك، وكما أكد البنتاغون والبيت الأبيض، فإن تركيا والولايات المتحدة لا تزالان تتبنيان مواقف مختلفة جداً حول حزب الوحدة الديمقراطي/وحدات حماية الشعب الكردية.
وبينما يسبب طموح وحدات حماية الشعب الكردية مشكلات للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن الأميركيين ليسوا مستعدين للتخلي عنهم، إذ يرون لتلك الجماعة دوراً، ليس فقط في الحرب ضد داعش، بل في سوريا ما بعد الأزمة.
حدود الطموحات الكردية
يتعرف الأكراد على حدود تحالفاتهم، فالموقف الروسي من التوغل التركي في سوريا يوضح أن الدعم الروسي السابق لحزب الوحدة الديمقراطي كان براغماتياً مدفوعاً بديناميكيات الخلاف التركي الروسي، وما إن أصلح البلدان علاقاتهما، فإن قيمة الحزب عند روسيا قد تناقصت بشكل كبير، لكن ليس بشكل تام، وقد أظهرت أحداث الأسبوع الأخير أن التعاطف مع الأكراد، الذي يرجع أغلبه إلى ميولهم السياسية العلمانية، وتكوين شراكة براغماتية معهم في الحرب ضد داعش أو في "ترويض" تركيا، لا يعني تكوين تحالفات قوية معهم.
وبخلاف المظاهر المبدئية، فإن الأكراد، من بين كل المجموعات الرئيسية في سوريا، هم الوحيدون المفتقرون إلى حليف ملتزم. وقد أكد الجدل قبل محادثات جينيف الثالثة هذه النقطة بوضوح. فما إن عبرت تركيا عن معارضتها القوية لاشتراك حزب الوحدة الديمقراطي في المحادثات، فإن أحداً ممن يدّعون كونهم حلفاء للأكراد لم يعبر عن إصراره على إدماجهم.
وعلى الرغم من رغبة الولايات المتحدة الشديدة في استرضاء تركيا، بغرض كبح جماع المعاداة المتصاعدة للأميركيين، والناشئة من الاعتقاد الشائع أنهم كانوا إما منخرطين في الانقلاب أو على علم به على أقل تقدير، فإن الأميركيين، على الرغم من ذلك، ليسوا مستعدين للتضحية بحزب الوحدة الديمقراطي.
موقف متعارض
تجبر الولايات المتحدة حزب الوحدة الديمقراطي على التقليل من طموحاته، لكنها لا تريد استعدائه بشكل كامل. إن عدة تحذيرات من البيت الأبيض والبنتاغون توضح هذه النقطة.
فقد كتب المبعوث الخاص للرئيس الأميركي باراك أوباما في التحالف الدولي لمواجهة داعش، بريت مكجورك، تغريدة قال فيها: "نريد أن نوضح أننا نعتبر هذه الاشتباكات (بين تركيا ووحدات حماية الشعب الكردية) في مناطق لا وجود فيها لداعش، غير مقبولة ومصدراً لقلق عميق".
على مستوى ما، فإن هذا يكشف عن موقف مؤسساتية متضاربة في السياسة الأميركية تجاه دور وحدات حماية الشعب، باعتبارها قوة مقاتلة ضد داعش، ومكانها في الاستراتيجية السورية بشكل عام.
ومن جهة أخرى، فإن هذا يظهر أن الولايات المتحدة تحاول أن توازن سيرها على الخيط الدقيق الفاصل بين شراكتها مع وحدات حماية الشعب الكردية، وعلاقاتها مع حليفها التركي القديم في حلف الناتو.
وبينما حضت الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب الكردية، بشكل متكرر، على الانسحاب إلى شرق نهر الفرات، فإنها لم تعترض على استحواذ الوحدات على الأراضي داخل سياق الحرب الأهلية.
وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة تحاول أن ترسم خطوطاً لتحديد العملية التركية، بهدف وتقليل احتمالية الاشتباك المباشر بين تركيا ووحدات حماية الشعب الكردية.
والحق أن كل التصريحات القادمة من الولايات المتحدة تظهر أنها لا تثير مشكلة حول شرعية استيلاء حزب الوحدة الديمقراطي على مناطق مثل عفرين وشرق الفرات.
هذا الأمر مهم؛ لأنه يظهر أن الولايات المتحدة لا تتوقع وحدة شديدة المركزية في سوريا في المستقبل، بل إنها ترى أن نهاية اللعبة إنما تكمن في دولة غير مركزية لكنها متحدة اسمياً، ونتيجة لذلك فإنها ترى دوراً لحزب الوحدة الديمقراطي والقوات الديمقراطية السورية في سوريا ما بعد الأزمة.