أكاديمي مصري يحاضر في "شومان" عن نظرية عربية للتنوير
المدينة نيوز :- قال وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور جابر عصفور، ان "التنوير هو الطريق الأمثل للمستقبل العربي الذى ننشد، وأداة ضد التعصب والجهالة والمذهبية، وهو ايضا ضد العولمة الوحشية والإرهاب الذى غزا العالم كله".
واضاف عصفور في محاضرة امس الاثنين في مؤسسة عبد الحميد شومان ادارتها الدكتورة هالة فؤاد، ان ما يعنيه التنوير، هو "منح الأولوية للعقل في إدراك الوجود، وإبداع العالم، والنظر إلى العقل البشري بوصفه النور الذى يهتدى به الإنسان، ويصوغ به عالمه، متحررا من أشكال الوصاية التي تحجر على العقل أو تقيد انطلاقه".
ورأى المحاضر أن اقتران العقل بالنور لدى طوائف المتكلمين والفلاسفة كان بمثابة تأكيد لحرية العقل الإنساني في الإدراك والإبداع، وتأكيدا لنوع جديد من المساواة بين الطوائف التي أشرقت عليها شمس الإسلام، ولم تفرق بينها إلا بالتقوى وبمسعى العقل وجهده في الانتقال بمن حوله من الظلمات إلى النور.
وقال، ان من الطبيعي أن يختلف مفهوم العقل، أو تتباين دلالته من طائفة إلى أخرى، وأن يقترن هذا الاختلاف بسياقات متصارعة من التأويلات الاعتقادية الاجتماعية السياسية، ولكن أيا كان الاختلاف فإن العلاقة بين العقل والنور تظل ثابتة ثبات العلاقة بين المعرفة الإنسانية ودلالة النور التي تقضي بدورها إلى الرتبة التي يحتلها الإدراك العقلي بالقياس إلى غيره في النظريات العقلانية السائدة في التراث.
واعتبر ان الدلالة الرمزية التى انطوى عليها حضور أمثال "حى بن يقظان" فى فلسفة ابن سينا أو ابن طفيل هي التجسيد الإبداعي للاستقلال الذاتي للعقل واكتفائه بنفسه معرفيا، هو أن الإنسان يستطيع بهدي من نور عقله، أن يصل إلى إدراك المطلقات، أو يفعل الخير لذاته وبذاته ويجتنب الشر، فكل من له غريزة من العقل، ونصيب من الإنسانية، فيه حركة إلى الفضائل، وشوق إلى المحاسن، وان هذه المكانة المتميزة للعقل هي الأساس النظري لأي فهم للتنوير في الدلالة على التعقل النقدي للأشياء والتأصيل الفكري للمفاهيم، على نحو ما نجد في عناوين الكثير من الكتب التراثية وكتب البلاغة والنقد منها كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" لحازم القرطاجني الذى وصل بالنزعة العقلانية في التراث النقدي إلى ذروتها الفريدة.
واكد المحاضر انه لا يجب الشعور بالغربة حين نتوقف عند الأفكار التي خلفتها حركة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر، أو نتوقف عند هذا العلم أو ذاك من فلاسفة التنوير القدماء أو المحدثين في أوروبا ذلك لأن احترام العقل وإعطاءه الأولوية يظل القاسم المشترك الذى يصل بين تراثنا العربي الإسلامي وغيره، وهو أصل الإضافة التي أضافها تراثنا العربي إلى التراث اليوناني السابق عليه، وأصل ما انتقل من تراثنا إلى التراث الأوروبي الأحدث الذى أفاد من تراثنا العقلاني قبل أن يضيف إليه، منذ كانت اسهامات ابن رشد إحدى بدايات النهضة الأوروبية وازدهار تياراتها العقلانية، مبينا أن المثقف العربي، في سياق هذه العلاقة المتبادلة بين تراثه والتراث الإنساني، السابق أو اللاحق، لا يشعر باغتراب أو دهشة.
واعتبر عصفور أن الممالك العامرة تصنع فيها بداية النهضة العربية الحديثة التي جمعت بين التنوير والدولة المدنية واستبدلت الابتداع بالاتباع، وأعادت فتح أبواب الاجتهاد، فأشاعت أنوار العقل، وفتحت أمامه أفق الحوار مع الآخر في زمن يتطلع إلى المستقبل، وأنزلت المتفلسف الحكيم منزلة رفيعة، وهيأت لدوره المتزايد في تأصيل الدولة المدنية وإشاعة حضورها الواعد بواسطة التعليم الحديث.
ورأى ان لا تعارض بين الوطنية والقومية، فكل منهما وجه للآخر بمعنى الانتماء لدائرة أكثر اتساعا، تصل إلى ذروتها من المنظور الإنساني الذي ينطوي على النزعات الوطنية والقومية، ويصل ما بينها وغيرها في وحدة التنوع الخلاقة للبشرية التي ترجع إلى نواتها الأولى، أي إلى الإنسان الذى لا يختلف جوهره عن جوهر أي إنسان غيره في أقطار المعمورة الإنسانية التي تعلمت– بعد دروس طويلة قاسية- كيف تتعاون وتتفاعل وتتحاور لتحقيق التنوع البشري الخلاق الذى تغتني به البشرية كلها وتتآزر، مؤكدة القيم والحقوق الإنسانية المشتركة، وعلى رأسها حقوق الإنسان التي تؤكد حق كل إنسان– بلا تمييز- في الحرية والعدل والمعاملة التي تكفل الكرامة الإنسانية والأمن لكل أبناء المعمورة الإنسانية، دون انتهاك للخصوصية الحضارية، أو تمييز الهوية الثقافية لأى شعب من الشعوب.
واوضح انه عندما توقفت الحضارة العربية عن الإضافة، واستبدلت بقدرتها على الانفتاح رغبتها في الانغلاق على الذات، انتابها الضعف الذى جعلها فريسة سهلة في مواجهة القوى الغازية، وتأسف على حال الامة في هذا الزمن التي لا تنظر إلى الأمام، والقياس على احتمالات المستقبل الواعد، وإنما هي ما زالت اسيرة الماضي، والقياس عليه في كل الأحوال، كما لو كان الحاضر هو استعادة للماضي، وفي لحظات التعصب المماثلة التي قرنت الفلسفة بالزندقة، استبدلت بانفتاح الفكر الانغلاق على ماض ذهبي متوهم.
وتطلع المحاضر الى ضرورة نشر أفكار التنوير التي لا تنفصل عن الإيمان الديني ولا تتعارض معه، فإن الحاجة الى التنوير هو من منطلق الوعى بقداسة العقل في الموروث الإسلامي وبحافز الدفاع عن الدولة المدنية والحفاظ عليها، مبينا ان فكر عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، يشتمل على جوانب من هذا الفكر أصولا إسلامية، وثيقة الصلة بالنزعات العقلانية في الإسلام.
ورأى عصفور أن التنويري الحقيقي هو الذي يبدأ من واقعه ومعرفة تراثه، مجادلا بالتي هي أحسن، واضعا أفكاره وأفكار غيره موضع المساءلة، مدركا أن المعرفة البشرية نسبية في نهاية المطاف، وأن هؤلاء الذين تكتسب لغتهم صفات الإطلاق واليقين والجزم هم أبعد الناس عن الحقيقة، وان صياغة حركة تنوير عربية مغايرة، تبدأ من الواقع العربي.