جرائم القتل العائلية
في زمن تتبدل فيه الأشياء شكلا ومعنى تبقى العائلة هي الدائرة الأهم في حياتنا وفي تشكيل وصياغة شخصياتنا وأنماطنا في التفاعل الاجتماعي، وهي اللبنة الأساس في أي مجتمع، ولكن في زمننا هذا تبدلت القيم والعلاقات العائلية وأصبحت ثقافتنا عرضة للاقتلاع من جذورها إن لم نحسن التعامل مع متغيرات العصر، فالعولمة والتكنولوجيا أصبحت تمثل المنهاج الخفي الذي يقود تعليمنا ويوجهنا بشكل لاشعوري لتمثل القيم المادية في عالم يسوده القلق والإحباط واللهث وراء المال، ولذا فلا غرابة إن سمعنا كل يوم عن حوادث القتل والدماء بين الأشقاء وبين الآباء والأبناء.
إن التفسير البيولوجي للإجرام يفسر نزعة الفرد للجريمة بالأسباب الوراثية البيولوجية، فمن الثابت امتلاك المرء 46 كروموسوماً منها 44 كروموسوماً جسدياً عادياً وكروموسومين جنسيين هما (XX) للأنثى و (XY) للذكر مع الإشارة إلى أن العنصر المسمى (Y) في كروموسوم الرجل هو ما يميزه عن كروموسوم الأنثى. ومن الثابت أيضاً أن امتلاك الفرد لعدد زائد من الكروموسومات بحيث يصل إلى 47 كروموسوماً منها اثنان ذكريان (YY) بدلاً من واحد (Y) أي 44 كروموسوماً عادياً زائد ثلاث كروموسومات هي (XYY) فإن هذا الاختلال يكون ذا اتجاهات إجرامية شبه أكيدة وهذه الصفة تحدد منذ اللحظة الأولى من التلقيح فيولد الإنسان ذكراً, ويكون عادة طويل القامة عريض المنكبين مفتول الساعدين يتمتع بقوة عضلية ممتازة ويتجه منذ نشأته نحو العدائية والمشاركة ويضاف إلى ذلك رغبته بالتفوق والسيطرة, هذه الرغبة التي تقوى بالعوامل الاجتماعية ذات الخلفية الذكورية التي تعطي الذكر قدراً أكبر من الاهتمام والإثارة في مختلف شؤون الحياة, رداً على ذلك يميل العديد من علماء النفس إلى اعتبار الجريمة سلوكاً مكتسباً يتعلمه الفرد من محيطه ويكون إجمالاً نتيجة لأسلوب التربية الذي يمارس عليه ولنوع التعاطي الذي يخضع له مع الآخرين أو يشاهده تكراراً بين الآخرين فيشكل لديه نموذجاً علائقياً مقبولاً.
وإذا تجاوزنا التفسير البيولوجي السابق فإنه يمكن القول إن سلوك الإجرام عموما مرتبط نفسيا بسيطرة مركز الرغبات والغرائز والشهوات الدونية على الفرد، وهذه السيطرة تقود إلى تدني واضح جدا في نظام القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية.
وتؤدي إلى فشل الفرد في الاحتواء الداخلي لتناقضاته، وهو قدرة الفرد على الإمساك عن تحقيق رغباته بطرق منافية للمعايير الاجتماعية، كما يمكن القول أن المجتمع بدينامياته ومعاييره يفشل أيضا بالاحتواء الخارجي وهو قدرة الجماعة أو النظم الاجتماعية على أن تجعل لمعاييرها الاجتماعية أثراً فعالاً على الأفراد.
ولو حاولنا تقديم تفسير لحوادث القتل في إطار العائلة لدخلنا في معادلة متعددة الأطراف والحدود، ففي مجتمع يغرق في البطالة والفقر، وتجتاحه موجة من الأعلام الموجه والمدمر لكل ما هو مقدس وسامي، تصبح العائلة مجرد مجموعة من الأشخاص الذين يجمعهم سقف واحد بل هم كضيفين إلتقيا في فندق وأجبرا على الاشتراك في غرفة واحدة، فعندما تصبح الأسرة بدون روابط عاطفية وبدون إطار قيمي ينظم علاقاتهم وتتجاذبهم الهموم والمشكلات وفي ظل تردي التعليم والمعرفة وانعدام مهارات الحوار والنقاش والبعد عن الأخلاق يصبح القتل بين الأقارب خيارا مطروحا، ولكنه بلا شك خيار لفئة من الناس وصلت حد اليأس من التغيير وتبلد المشاعر
بقي أن نقول: إن السلوك الإجرامي هو سلوك مركب لا يمكن أن يخضع للتجزئة، أي لعوامل ذات صبغة اجتماعية أو عضوية أو نفسية خالصة، بل إن مزيجاً مشتركاً من عدة عوامل هو الذي يؤدي إلى ارتكاب الجريمة.
د. عاطف شواشرة
الجامعة الأردنية /محاضر غير متفرغ
باحث/المركز الأردني للبحوث الاجتماعية