ثنائيات السياسة في زمن الاشتباك الكبير...
العقول التي لا تفقه معنى السياسة من جهة، ومعها تلك التي لا تفقه معنى استقلالية البشر، وتفضل التصنيف، لا يمكن أن ترى موقفك من هذا الملف إلا بوصفه انحيازا للطرف المعاكس تماما، وبالتالي ستحسبك عليه، حتى لو كنت تتناقض معه أو تتحفظ على طريقة تعاطيه مع ذات الملف، أو تتناقض معه في ملفات أخرى.
لا يفقه هؤلاء وأولئك أن وقوفك ضد الحوثي الذي سرق ثورة شعب رائعة بمسلسل من الأكاذيب، ولحساب دولة معروفة (إيران)، وبقوة السلاح بطبيعة الحال، وبسيل من الجرائم أيضا.. هذا الأمر لا يعني تأمينك على ما يفعله الطرف الآخر، إن كان على صعيد التعاطي السياسي مع القضية، قبل انقلاب الحوثي، كما في المبادرة الخليجية، أم بعده كما في التعاطي مع القوى السياسة المهمة في البلاد، فضلا عن الموقف من
وحدة البلد، أم كان على صعيد المعركة العسكرية وطريقة إدارتها، وما يترتب عليها من معاناة.
لا يفقه هؤلاء وأولئك أن وقوفك ضد طاغية يقتل شعبه في سوريا، لا يعني أن توافق على ممارسات كثيرة لجماعات مسلحة؛ إن كانت سياسية، أم في سياق من العمل العسكري والانتهاكات والصراعات فيما بينها.
لا يفقه أولئك أن وقوفك ضد الحشد الشعبي وما فعله في العراق، وقبل ذلك وبعده ضد سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الأمريكان بحق المدن التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة، لا يعني أنك تنحاز لصالح هذا الأخير الذي طالما اختلفت بوضوح مع نهجه وممارساته. والمصيبة هنا أن كثيرا من الأصوات إياها التي تعاملك على هذا النحو التصنيفي البائس، لا ترى بأسا في أن يقاتل الحشد التابع لسليماني تحت غطاء من طيران أمريكا، والذي من دونه ما كان بوسعه أن يتقدم من مدينة إلى أخرى، وصولا إلى الموصل.
لا يفقه كثيرون مثلا أن وقوفك ضد سياسات السلطة البائسة حيال المقاومة، والتعاون الأمني مع العدو، لا يعني أنك لا ترى في رفض “صفقة القرن” موقفا جيدا، فكيف وأنت تقول ذلك بالفم الآن، لكنك لا تراه موقفا كافيا في مواجهة المؤامرة الكبيرة على القضية، لا سيما حين يتواصل نهج تكريس سلطة تحت عباءة الاحتلال وفي خدمته.
لا يفقه أولئك القوم أو بعضهم مثلا، أن وقوفك ضد العدوان الإيراني في سوريا، وطائفيتها التي دمّرت العراق، وضد عدوانها في اليمن، لا يعني أنك تقف مع أمريكا التي تراها ألد أعداء الأمة، بخاصة حين يكون الابتزاز متعلقا بمصالح الكيان الصهيوني وحساباته.
يحدث ذلك لأن السياسة في المنطقة لم تكن بهذا التعقيد والتركيب الذي هي عليه الآن، فمن يتحالفون هنا، يمكن أن يقتتلوا هناك، ويتآمروا على بعضهم في ملف ثالث، وهكذا.
لم تكن حياة أصحاب الضمائر الحية، ممن ينحازون للإنسان صعبة كما هو حالها في هذه المرحلة التي تختلط فيها الأوراق على نحو مريع، فكيف حين يكون من المستحيل على المراقب أو الكاتب أن يقول كل شيء ما دام موجودا في هذا العالم العربي الذي أصبح في بعض تجلياته، يحاسب حتى على الصمت أحيانا.
الدستور - الثلاثاء 10/4/2018