فقه التعويم
ليس التعويم حكراً على الاسعار والعملات فهو مصطلح قابل للهجرة الى سياقات اخرى غير الاقتصاد والبورصات ومنها الثقافة وشجونها المزمنة في عالمنا ، وهو افساد مزدوج ، لأنه يدمر المعايير كلها ، لهذا سعى جُناة التعويم على الفن عندما بدأ أي شخص من المارة يصلح للغناء اذا كان ابناً محروماً من ارث الحنجرة والصوت ، ومن يقرأ على الشاشات أسماء المشتغلين في السينما هذه الايام سرعان ما يتذكر آباء وأمهات هؤلاء ، فالوراثة في الفن أصبحت ثقافة سائدة ومشروعة ولا أحد يعترض عليها ، وحين يصبح عدد المغنين العرب في هذه الحقبة الصفراء التي تحولت الى مجال حيوي لتجريب التعويم اكثر من مليون ، فان المشهد يصبح مبكياً من فرط الاضحاك ، ويصدق هذا ايضا على الاعداد الغفيرة للكتاب والكاتبات والشعراء والشاعرات في بلاد العرب والوحيدون الذين ظلوا في أماكنهم خارج البورصة كانوا ولا يزالون محصنين بالعفة والاستغناء ، ويستحقون التقدير لأنهم لم يمدوا أيديهم الى الاناء العملاق الذي تسبح في مرقه الخراف والافاعي معاً،
التعويم يقصد به خلط الحابل بالنابل بعد أن اضاف التاريخ في غيبوبته البابل ايضا الى هذه الثنائية ، ولأن الثقافة العربية بقيت الى حد ما خارج المدار الجحيمي الذي ندور فيه حول انفسنا فقد قرروا على ما يبدو منذ نهاية القرن الماضي افسادها ، فبدأوا باللغة التي اصبح اهلها يرطنون بها في المطاعم والمقاهي ، وثمة من يخجلون من النطق بها لأنها لا تليق بما بلغوه من تقريد ومحاكاة ضريرة للآخر لمجرد انه الغالب،
ومن قالوا ان افضل وسيلة سلمية لتدمير أمة هي وضع الاشخاص غير المناسبين في مواقع معينة لم يخطئوا على الاطلاق لهذا لم تكن بعض البلدان بحاجة الى قصف نووي أو ابادة مسلحة ، فقد تحققت الاهداف عن طريق آخر ودون اراقة قطرة دم ، لكن ما أريق وسفح حتى ملأ الشوارع والساحات والارصفة هو الكرامة الانسانية والكبرياء القومي ، ولو احتكمنا على سبيل المثال فقط للقوائم التي توجد في أدراج نقابات الكتاب والفنانين في العالم العربي لوجدنا انها تكفي اذا أعيد توزيعها ثلاث قارات وقد تفيض،
للوهلة الاولى تبدو الحرية وشعار دع ألف زهرة تتفتح الذي اطلقه ماوتسي تونغ هو السبب ، لكن الامر ليس كذلك ، لهذا لم يبطل العجب ، فالاهمال واللامبالاة وتهميش المهن الحيوية ذات الصلة بالعقل لا علاقة له بالحرية أو حدائق الأزهار المتفتحة ، بل هو من افراز استراتيجية التعويم ، التي تحذف الفوارق بين السلحفاة والصقر وبين حبة الزيتون والحصاة ، وبقدر ما هناك متضررون من هذا التعويم ، فثمة اضعافهم من المستفيدين والذين يستثمرون حالة انعدام الوزن هذه لصالحهم ولو الى حين،
والارجح ان هذه المرحلة سوف تحتاج في المستقبل القريب الى غربال محكم ومشدود ، فما هو مرشح من الزؤان للسقوط قد لا يخطر ببال من تحطمت اضراسهم منه.
إن زمنا يحذف فيه الفارق التاريخي والمنطقي بين الاحتلال والتحرير وبين الغزو والضيافة وبين ماء الوجه وعرق أصابع القدم لا نستغرب عندما يتحول إلى مسرح للتعويم بمختلف أنماطه ، كي يصبح المشهد كله مرسوما بالأسود والأسود فقط،،(الدستور)