دينية وطنية وعلمانية طائفية
شهد لبنان أول وأسوأ حرب طائفية بعد نشأة الدولة العربية الحديثة، ولم يكن في لبنان حزب إسلامي. القوى الفاعلة والمؤثرة في الحرب اللبنانية كانت طائفية وعلمانية في الوقت ذاته. وأول ظهور لحزب إسلامي فاعل كان لحزب الله بعد نهاية الحرب الأهلية، وظل دوره وطنيا مقاوما، وعلى رغم دخوله مؤخرا في اللعبة الطائفية لم يتورط كما الأحزاب "العلمانية". لا يعني ذلك ان الأحزاب الإسلامية ليست طائفية، ففي العراق أثبتت تلك الأحزاب (الدعوة، المجلس الإسلامي، الحزب الإسلامي...) أنها لا تقل طائفية عن الأحزاب العلمانية، بما فيها الحزب الشيوعي.
مقابل ذلك، وفي غضون مرحلة الاستقلال، قدمت الحركات الإسلامية تجربة وطنية جامعة في غير بلد، وكان يمكن لولا المراحل الانقلابية التي لم تنته آثارها أن تنضج كما تجربة الأحزاب المسيحية في أوروبا وتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا. في سورية لم تدرس تجربة فارس الخوري إلى اليوم ولم تتكرر. فالمسيحي الذي ينتسب لأصغر الطوائف في العالم العربي "البروتستانتية" صار رئيسا للوزراء في نظام نيابي منتخب ورئيسا لمجلس النواب.
كان الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، وعميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، حليفا للخوري وداعما له. وكان طريفا في دمشق المدينة المحافظة أن تكون بنات الخوري حاسرات الرأس في الحملة الانتخابية للسباعي. كان ذلك في منتصف القرن الماضي، هل يمكن في ظل الأنظمة والأحزاب "العلمانية" اليوم أن تتكرر التجربة؟
لا شك أن تلك المرحلة تشكل استثناء، ولكنها تثبت أن الشعوب مهيأة لثقافة التنوع وقابلة أيضا لثقافة الإقصاء. القضية سياسية بالمقام الأول، فثقافة الإقصاء كما في المثال اللبناني الصارخ هي صنيعة زعماء الطوائف، فهو لا يكون زعيما إلا إذا كان يكره السني أو الشيعي أو المسيحي (والفلسطيني بالتأكيد!). حصلت مذابح طائفية في التاريخ، وهو ما لا يستثنى منه بلد في العالم، لكن أن نبقى أسرى ثقافة المذابح فهذا قرار سياسي.
يخلط بين التدين والطائفية بشكل غير علمي، فزعماء الحرب الأهلية في لبنان لا يعرف عنهم تدين إلا من حيث المظاهر لغايات إبراز الهوية الطائفية. في المقابل كان السباعي، وهو فكرا وتجربة غير طائفي، شديد التدين وعالم دين. وفي المثال الشيعي نجد أمل الأكثر طائفية أقل تدينا وحزب الله الأكثر تدينا أقل طائفية. ولك أن تتخيل أي دين كانت تؤمن به المليشيات المسيحية التي نفذت مجازر صبرا وشاتيلا. كانت عشيرة علمانية تثأر بشكل أعمى لشيخها بشير عقب اغتياله.
القضية سياسية بالمقام الأول، والسياسي هو الذي يضع المناهج في المدارس، وهو الذي يقدم الخطاب الإعلامي وغيره، وللأسف استخدم السياسي في العالم العربي سهام العنصرية وكثيرا ما ارتدت عليه.
المذبحة البشعة التي شهدتها الإسكندرية، أكدت أن النظام "العلماني" طائفي، في المقابل فإن الإخوان المسلمين في مصر وخارجها نجحوا في الاختبار، ليس في استنكارهم للمذبحة فقط، بل في دعوتهم العملية لمشاركة المسيحيين في احتفالاتهم بعيد الميلاد في الكنائس حماية لها.(الغد)