الثابتون على المبدا
![الثابتون على المبدا الثابتون على المبدا](https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/static.jbcgroup.com/amd/pictures/69436.jpg)
في حزيران 2005 دعيت لقضاء إجازة الصيف في نيوجيرسي في الولايات المتحدة الاميركية من قبل صديق عجلوني أميركي غادر إلى هناك بعد أن أنهينا مرحلة البكالوريوس, وبعد أن وصلت إلى هناك وبدأت بالتعرف على الحياة والثقافة الاميركية وفي إحدى السهرات الجميلة, قال لي صديقي : أتدري من يعيش هنا؟ قلت: من؟ قال: إنه صديقك عوني القضاة الذي كان صاحبنا منذ أيام الثانوية, آه.....عوني!!! يا لذاك الزمن الجميل !!!
نعم، إنه نِعْمَ الصديق, كان شابا لطيفا, أنيقا، صاحب خلق ودين, هادئا, متواضعا, متأملا للفكر والوجود, جمعتنا أيام الثانوية, أيام الأحلام المفقودة والامال المعقودة.
قال صديقي: هل ترغب بمقابلته؟ أتمنى ذلك..... هيا بنا......قلت له: لا تخبره من فضلك, أريد أن أرى إن كان ما يزال يذكرني أم لا؟ أو إن كانت صداقتي ما زالت تعني له شيئا في هذا العالم المادي؟ وهل عوني ما زال هو عوني الذي عرفته بعد ان عاش ما يقارب العشرين عاما في حضارة ما فتئت تتنفس القيم المادية، وتعيش على عبير الرأسمالية؟
ترى كيف أصبح هذا الصديق بعد كل هذه السنوات الطويلة؟! عندما وصلنا, وبينما كنت أهمُ بالنزول من السيارة شاهدت عوني يجلس على بلكونة ذلك البيت الجميل، ويطالع حاسوبه الشخصي وضوئه ينعكس على وجهه الجميل فيزيده بهاءً على طلته البهية، قلت في نفسي ربما الرجل يعقد صفقة تجارية, أو يمارس عمله من خلال الإنترنت, سأكون ضيفا ثقيلا في زحمة أعماله وساعاته التي تنتظره، فالناس هنا لا وقت لديهم للصداقات والعلاقات الاجتماعية، وبدأت ألملم نفسي للقاء سريع... رحب بي عوني أجمل ترحيب... وكان سروره وفرحه بقدومي عظيما, قلت له: تبدو مشغولا يا صديقي, قال: لا عليك, أنا كل يوم أقرأ صفحة من القرآن الكريم وأبحث في تفسيرها, وأنا لست مشغولا, لقد دعوت الله أن يمدني بصديق قبل أيام وها قد جئت أنت, مرحبا بك وألف مرحب، تحدثنا في كل شيء تلك الليلة، تحدثنا عن عشرين عاما مضت، تذكرنا أيام المدرسة والمعلمين، وصباحات عين جنا الجميلة ومدرستها الشامخة ومديرها الحكيم، وأيام الاذاعة المدرسية وأستاذتها العظام، تحدثنا كما لوكنا نبحث عن ذاتنا وجذورنا في تلك اللحظات المفقودة.
يا الله كم كان عوني رائعا, وكريما!!! رجلا من خيرة الرجال, يؤدي عمله باتقان ويصلي فروضه في المسجد، يخدم الجالية بدروسه ومحاضراته الدينية والفكرية، يحترمه الجميع هناك، عشنا أياما جميلة ورائعة, وفي كل يوم كان يصر على ان يوصلني بسيارته الخاصة إلى حيث اتعلم الانجليزية، ثم يعود ليصطحبني إلى مكان اقامتي، اما الولائم والوجبات فحدث ولا حرج، فكلما هممت باخراج دولاراتي كانت بطاقته الذهبية تسبقني إلى حيث (الكاش)، لقد غمرني بكرمه ونبل طباعه، حتى أنني بت لا أعرف حدودا لروعة هذا الانسان.
لقد ذهبنا معا في رحلة عبر الولايات, فزرنا الجامعات ومتاحف الفضاء، والتاريخ الطبيعي، وتمثال الحرية في نيويورك, والبيت الأبيض, و حدائق الحيوانات, والأماكن الترفيهية, حتى وصلنا إلى شواطئ فرجينيا وحدائقها, وفي كل مكان من هذه الأمكنة كنا نتحاور في السياسة والتاريخ والعلم والحضارة، نحلل الأفكار، ونركبها ونقارن بين حضارتنا وحضارة الغرب، وفي كل موقف كنت اكتشف انني امام رجل غير عادي، رجل مثقف وملم ويعرف ما يريد، حتى ان فرحي به قد طغى على احساسي المفعم بهذه الخبرة الجديدة.
كانت رحلة رائعة وممتعة ومليئة بالسجالات والحوارات والمغامرات, ولكن أجمل ما فيها كان أن عادت صداقتي مع ذلك الانسان الثابت على مبدئه, ففي هذا الزمان يتغير الناس ويتبدلون ...يتلونون بتلون الفصول...يلقون بمبادئهم عند أول ابتلاء كما هي الحرباء استجابة لظروف الطبيعة. فلله درك أيها الصديق! ببركات الثبات على المبدأ تسير، وبإيمانك بوقوف الله مع أوليائه تنطلق، فأجمح أيها الثابت وعين الله ترعاك، ودم يا أبا عبدالله صديقي إلى الأبد.