العرض المغربي «التابوت»: استحضار مسيرة رائد مسرح الهواة محمد تيمد
المدينة نيوز :- في افتتاح مهرجان عكاظ الدولي الرابع للمسرح في مراكش، أعاد المخرج عبد الجبار خمران بمسرحيته «التابوت» للذاكرة المسرحية المغربية ماضيا غير بعيد، استحضر من خلالها يوميات المسرحي الراحل محمد تيمد (1939 ــ 1993) «أقواس أيامي». ويعد تيمد أحد رواد وأعمدة مسرح الهواة في المغرب، إضافة إلى أسلوبه المغاير عن كل ما هو سائد، حيث جسدت تجربته الوقائع الشعبية والسياسية المغربية التي عايشها عن كثب، فتحولت في نفسه إلى مواقف نضالية غير رسمية تبنى على أثرها هموم وقضايا الطبقة الكادحة.
التابوت
اعتمد عبد الجبار خمران على أسلوب تيمد نفسه، وطريقة كتابته للنص أو إخراجه، ذلك من حيث حضور الضوء والظل واستنساخ الأدوار، كالتعدد والازدواجية النفسية في الشخصية الواحدة. فمسرحية «التابوت»، وهو اسم أحد أعمال محمد تيمد هي من التجارب المعدودة في المسرح المغربي، التي اشتغلت على السيرة الذاتية. كذلك التعامل مع كتاب «أقواس أيامي»، الذي لم ينشر إلا سنة 1997، بعد أربع سنوات من وفاة تيمد، هو في حد ذاته إبحار في مادة غنية بالسرد، بناؤها محاورة الذات والآخر وعناصر من أسرته الكبيرة والصغيرة. ففي مسرحية «التابوت» جنح خمران إلى التعامل مع محمد تيمد وشخصـــــيات يومياته ليس فقط مع ما هو مسطور في «أقواس أيامي» وحدها، بل تعداه إلى الموروث الشفاهي المتداول بين الذين عاشروا وعرفوا تيمد عن كثب. فبذلك أصبحت هذه اليوميات مــن حياة الكاتب والمخرج المسرحي وصاحب نظـــرية مسرحـــية عملية فوق الخشبة، ذات طابــع تسجيلي درامي، وليس أدبيا وحسب.
فتحولت شخصيته من خلال عرض مسرحية «التابوت»، التي أثارت جدلا طويلا بين معاصريه والمهتمين لاحقا، إلى شخصية مثيرة للفضول والرغبة في التعرف عليها أكثر.
«تحت سماء من النار، في ليلة من ليالي الحشر، في مولد ربيع عشبه أحمر ووروده سوداء، إنه مارس/آذار 1942.. الجوع ينذر عام البون. كان والدك ميسورا بعض الشيء، أو على الأقل الخبز كان مضمونا لأنه كان رحاء. نزحنا من الصحراء إلى فاس، قل من الشرق إلى الغرب، لم يكن معنا غير سليلة من التمر».
قسم خمران هذه الصورة السردية، التي سجلها محمد تيمد على لسان والدته، وأيضا غيرها كثير، إلى مواقف حية يتقاسمها بالحركة والصوت أربعة ممثلين رجاء خرمان، توفيق أزديو، زكريا حدوشي وعبد الفتاح الديوري، في فضاء فارغ من التأثيث، ينقل هو الآخر تصورات محمد تيمد السينوغرافية من تصميم يوسف العرقوبي. فوق هذا الركح الخالي إلا من تابوت هو الحمام، كتاب القرآن، السيارة، المسجد، دار القاضي، إلخ. يعمد خمران وهو ابن مراكش إلى نقل أجواء فاس نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، التي عاشها محمد تيمد واستقى منها سرديات عوالم طفولته ومنحها صورة متوالدة لمرحلة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في هذه المدينة. مسرحية «التابوت» رحلة تحمل المشاهد معها ليقاسمها صورا تجسد حكايات الخيبة والأمل، رحلة إبداع كبير في حياة قصيرة، أثبتت لصاحبها حضورا قويا في مسيرة المسرحيين المغاربة. فلمحمد تيمد عدد من الأعمال المسرحية منها «كاهنة المطبخ»، «كان يامكان»، «عرس الذئب»، «الزغنانة»، التي نالت جائزة أحسن بحث مسرحي في مهرجان أغادير. لقد اختار خمران من بين أعماله الكثيرة مشهد الامبرطور الروماني المزاجي من مسرحيته «منام قط»، كدلالة على وعي محمد تيمد السياسي، الذي كان يقدمه بشكل عبثي تارة وفلسفي أحيانا أخرى.
مسرحي خارج الأُطر
تميز تيمد من خلال عمله المسرحي التجريبي، الذي استعصى على النقاد تصنيفه في خانة من الخانات، مرة إلى المسرح الفقير، وأخرى إلى مسرح العبث، وثالثا إلى التعبيري، في وقت كان معاصروه مثل الطبيب العلج، زكي العلوي أو نبيل الحلو يعملون على اقتباس المسرح الكلاسيكي، أو يتجهون إلى تيارات معروفة في الساحة المسرحية. فتيمد كان رجل المسرح المتكامل، مخرجا، مصمم ديكور، ينتقي الموسيقى بنفسه ويصمم حتى ملصقات وإعلانات العرض.
لقد عانى محد تيمد عزلة داخلية أنتجت انهيار رابطه الأسروي بزوجته وأبنائه، فبدأ ينشد البحث عن الأفق الواسع في الرحيل، الذي لازم فترة طويلة من حياته. هذا الرحيل يحياه المُشاهد في كثير من مشاهد مسرحية «التابوت»، الرحيل المناط بالبحث عن التنفس، عن فضاء يستوعب أفكارا ثورية سابقة لأوانها، فضاء يستوعب فكر ونظرية مجدد في سماء المسرح العربي. لقد لازم الرحيل محمد تيمد فرغم مقامه لفترة ليست بالقصيرة في مكناس وتنقله بين عدد من المدن، فقد ظلت فاس تلازمه تسكنه تنحت في ذاكرته الكلمات. وفي سنة 1993 سافر محمد تيمد في تابوته سفره الأخير بلا عودة.
القدس العربي