في البحث عن سمراء
كيف التقينا ؟ أهي الظروف التي جمعتنا ؟ أم نسميها الأقدار ؟ ربما اللامبالاة . لا .. ليس جمالها فهو من النوع العادي الذي تراه يمر من أمامك ولا يستوقف نظراتك ولا يغير من دقات قلبك أو شدة خفقانه. وليس ما تلبس من ثياب ، فألوانها بارده ليس فيها بريق أو حرارة ولا يوجد في طريقة لبسها ثورة ولا خروج على المألوف، مثلها مثل خمسين ألف امرأة تمر من أمامك فلا تثير انتباهك. إذن كيف حدث ذلك؟
انتبهت وأنا أتحدث مع سيقان البامبو، التي غمرتُها بالماء في إناء وضعته على حافة النافذة ، حول موضوعات حيوية كارتفاع أسعار الألبان و مشتقاتها و أنّ استخدامها كأقنعة للوجه إهدار في غير محله.
أدركت عندها أنني دخلت المرحلة الصفراء التي تسبق الجنون بقليل، خفت و بت أفكر كيف السبيل لأنزع عني ثياب الوحدة، هل تكون الصداقة أو المعايشة أو الزواج هو الحل ، أم هو القفز إلى الهاوية بحد ذاته ؟ رغم اتفاقه مع منظومة الأخلاق و العرف.
ولأنني لا أملك خطة مسبقة و لا تجربة في الحب وضعت في برنامجي اليومي البحث عن رفيقة أهرب بها من الوحدة، سفينة أقطع بها صحراء حياتي القاحلة، صرت أتحين الفرص و أنظر حولي من تكون ، سواء كنت في العمل أو السوبرماركت أو مشارك في مناسبة اجتماعية.
ماذا عن فتاة الملحمة التي تعمل في السوبرماركت الذي أبتاع منه حاجاتي ! رأيتها و أنا في قسم السكاكر فسرت باتجاهها وأنا منوم مغناطيسيا، قوام شبيه بفتيات أوروبا الشرقية ، مرحة ، قوية الشخصية ، تستخدم السكين في قطع اللحم كما لوكانت ريشة في يد فنان. انتبهت من خواطري وهي تنظر إلي نظرة مباشرة تسأل عن طلباتي راسمة على وجهها ملامح جادة، خشيت أنها أحست ما أفكر فيه فاهتزت خيالاتي و اختفت ، طلبت بعض شرائح اللحم للشواء فبدأت تقطع و تضرب بالمطرقة بهدوء و مهارة كأنها إحدى شخصيات فيلم من أفلام الإثارة و الغموض. لابد أن الحياة معها كمن يحتضن قنبلة موقوتة، لا تدري متى تدفعها الحياة لتستخدم ريشتها، كلا ! من قال أنها تناسبني و أنا الرجل الهادئ الذي لا يعلم شيئا عن الفنون القتالية.
سأذهب للجهة الأخرى حيث الهدوء والرومانسية ، بدأت أرتاد اللقاءات الأدبية و المعارض الفنية و أسابيع السينما بكثرة فعلّ و عسى أن أجد ضالتي.
ولأنّا نقرأ و نصدق ما نقرأ ينعكس علينا ذلك،بل إنّا نتأثر به أكثر من الكاتب أحيانا، وجدت أن الكاتب يجلب جمهوره معه فإن كان ذو عمامة يأتي جمهوره لابسا عماماته، و إن كان ذو طابع عصري يأتي جمهوره بنكهة أطلسية ، تجد من يلبس لباسا تقليديا أو رسميا و ربما بوهيميا و إن نظرت في وجوه النساء و أكفهن ترى فيما ترى محاكاة للتكعيبية و الإنطباعية و حتى السريالية. أظافربعضهن ذات طلاء أسود أو أزرق غامق عندما تجتمع مع طلاء الشفاه و ظلال الأعين تصيبك حالة من رعب و تحسب أنك توقفت في لقاء للساحرات.
لاحظت أن سيقان البامبو باتت ذات لون أصفر و قد كانت خضراء، فسألت ماذا حدث لها و ما السبب ؟ هل إعراضي عن الحديث معها أو شدة بريق عين الشمس ؟ أو أن أحدهم مر بالنافذة فتعلق به فؤادها ؟ سأضعها على مكتبي و أتعهدها بالرعاية، و أقص عليها ما يحدث معي ، بل أقرأ على مسامعها فقرات كاملة من الرواية أو الكتاب الذي أقرأ ، تلك الفقرات التي تشبه الولادة و تشق القلب كما يشق البرق كبد السماء فربما تلونت خدود نبتتي واخضرّت.
كان التماهي مع الوسط الثقافي يقتضي منّي الاطلاع على الافكار المتداولة و الوقوف منها موقفا دبلوماسيا مدروسا حتى إن لم أكن مؤمنا بها وأعتناقها أحيانا و أنت تعلم عزيزي القارئ ما الذي أدخلني لهذه البيئة، اتخذت جانب الحذر عند استخدامي المصطلحات الجديدة و التي لم أكن مضطرا لاستخدامها من قبل مثل "Feminism" و "Liberalism" و “Erotica” و القائمة تطول.
وإن حدث و ذكر اسم كتاب أو كاتب أثناء الحديث مع إحداهن و كانت من مريديه أبطأت من إيقاع النقاش فأنا لا أدري إلى أي حد هي مقتنعة بأفكاره و شخصيته ، فهذا الكاتب لاأدري و ذاك يؤمن بمنظومة الأخلاق فقط ، و آخر يؤمن بحرية شخصية فضفاضة لا يعرفها المجتمع المحافظ ، والبعض يكتب بجنون.
لا شك أن الأدب و الفن يشكلان شخصياتنا و يتركان أثرهما على آرائنا و أفعالنا دون ما نعي أحيانا كما يفعل الماء الجاري أو الهواء في الصخر فيصنع الحوريات. علينا أن نعي ما نقرأ و نحذر منه فقد يقترب من حدود الممنوع "Taboo" . مارأيكم برواية "لوليتا" للكاتب "فلادمير نابوكوف" و ما فيها ؟ أهو حب ، شذوذ أم مرض نفسي ؟ ربما تُقرأ في ندوات للتحليل النفسي أو الأدبي لكن أن تقرأ بقصد المتعة و تناقش بين أفراد العائلة ! فتلك أرض وعرة.
أتعبني السفر بين الفضاءات المختلفة و أنا أبحث عن نفسي بين النظرية و الواقع ، بين ما نؤمن به و ما يؤمن به الآخرون، علينا أن نقترب قليلا لنرى بوضوح أكثر و نعيش على أرض مشتركة بعد أن ننزع عن وجوهنا الأقنعة، كنت أحدّث نبتتي بذلك عندم اكتشفت أن هذا يساعدني في معرفة و تقييم أفعالي فسررت بها و سرت بي.
في أحد الأيام و في فترة الغداء كنا نخرج معا من مكان عملنا باتجاه أحد مطاعم الوجبات السريعة، كان كل منا يسير لوحده لكن الدرب جمعنا ، والحديث عن الطقس يخدم كل الأحوال ، ثم الرتابة في العمل قادتنا لنجلس سويا على طاولة واحدة، كان لقاؤنا عفويا لم يكن مخطط له وتصرفاتنا بلا تصنع، أكلنا و كأنّا عجوزين ، كانت تغمس قطع البطاطا بالثوم و هي تقول أن الثوم هو إكسير السعادة و ليست الشكولاتة كما يدّعون، كنت أغمر ما آكله بالفلفل الحار و المايونيز و الخردل و هي تجاريني وكأننا "شيريك الغول الأخضر" و صديقته "فيونا" ، بعد الغداء استأذنت لأدخن سيجارتي على الشرفة الخارجية فلم تتردد وخرجت لتجلس بجواري و بعد أن عبثت بحقيبتها قليلا ، أخرجت سيجارتها الإلكترونية "Vape" و بدأت تطلق سحابة من الدخان حولنا ، بعدها أصبحت فترة الغداء فترة سعيدة أترقبها.
تكررت لقاءاتنا العفوية إلى أن تجاوزت المنطق، ثم ابتعدت عن نطاق العمل لتصبح لقاءات فيها موسيقى و شموع و همس دافئ، و صمت لذيذ، ينعكس على وجهها سماء صافية و في عينيها تمتد مزارع الزيتون أهي السمراء التي أبحث عنها ؟
أمّا سيقان البامبو فلم أعد أحدثها بعد أن تعلمت لغة الصمت ، لكنها تعلم ماذا صنعت تلك الفتاة العادية بي، و جعلتني أقرأ ما بين السطور و أرى ما يخفيه الظل و كيف تلعب الأقدار