رومانسيات وألغاز شرقية: قراءة في «النمر الليلي» ليانغشي شو
المدينة نيوز:- تدور حبكة «النمر الليلي» للماليزية الشابة يانغشي شو حول جرائم قتل، تعزى في البداية لنمر طليق، وربما مسحور، ولكن في النهاية تكشف عن وجود قاتل متسلسل. بالأحرى اثنين: طبيب محلي فاسد يتاجر بالأعضاء البشرية. ومهاجرة إنكليزية مهووسة بحب ميؤوس منه. وما بين البداية (الافتراض) والنهاية (الحقيقة) ترسم لنا الرواية صورة عن أمة في مرحلة مخاض. وعن بلد يستيقظ من سبات القرون ويعاني من فراغات نفسية وحضارية.
تختار شو لروايتها أسلوب الأصوات، وهي هنا خمسة، واحد بضميرالمتكلم (جي لين)، وأربعة بضميرالغائب (شين ورين ويي ووليام الملقب باسم لي). ولكن هذه الأصوات لا تعبر عن نفسها، بقدر ما تتابع المعاني التي تحملها، أو الرسالة التي فرضتها عليها البنية. فالأسماء باللغة الصينية المحلية لها معنى يحدد برنامج وخطة كل شخص. وكانت جي لين تعني الحكمة. وشين الاستقامة. ورين الإحسان. ويي الحقيقة. ولي (لقب وليام) النظام. وهذه الصفات هي أيضا الفضائل الخمس التي بشر بها كونفوشيوس. ولذلك يمكن أن تقول إن نظام الرواية ليس غريبا على نظام التفكير الشرقي، لكن بشرط واحد. أن ننظر للدين على أنه سلم لضبط السلوك والأخلاق، وعليه لم تكن الرواية تبحث في الماهية فعلا، وإنما بتجريداتها في الواقع. بمعنى أنها رواية سلوك وطبائع، أو أنها بحث مسهب في المعنى الروحي لتطور المجتمعات.
وبالفعل كانت الرواية قريبة من المعنى السياحي لتعريف الأخلاق والطقوس في الملايو، في فترة الثلاثينيات إبان الاحتلال الإنكليزي. وقد اهتمت بالمعنى المعرفي للإيمان وعلاقة الجزء بالكل، باختصار هي استعارة غير دينية من جو ديني. لقد أضفت طابعا روحيا مطلقا على حدود الدين، وتطلب ذلك أن تلغي الحبكة الدور الكلاسيكي المعروف للبطل المفرد، وأن تستبدله بالبطولة الشاملة، أو ما تسميه بالحرف الواحد المجموعة المثالية، وكانت ترمز لها بدائرة تعبر عن الإنسان الكامل. ويبدو أن الخمسة كانت في البنية التحتية تقابل اثنين،
أربعة من السكان المحليين، وواحدا من الإنكليز. وهو مركز الأحداث أو محيط الدائرة، ثم يمكن أن نختصر الأربعة بشخصية يي. الصبي الميت والأخ التوأم لشين، ولدينا أكثر من مبرر لذلك، فالعدد 4 يرمز للموت والتشاؤم باللغة الكانتونية، وأساسا كان يي يظهر للبقية في أحلام من النوع الذي يسميه علم النفس «الهيلة» لما فيها من أهوال وفظائع. لقد كانت أحلامه هلاوس منظمة وتعيد ترتيب العلاقة بين الأسماء والرموز، وعالم الإشارات وعالم المعاني، حتى أن كل رموز فرويد تجدها بالترتيب، وكما وردت في كتابه «تأويل الأحلام»، ومنها النهر وتيار المياه الجارية والقطار وعالم الأعماق وطوف النجاة واليابسة وغيرها. وإذا أضفنا لذلك أن اسم يي يعني الحقيقة، يحق لنا أن نسأل: ماذا أرادت شو من كوابيسها؟ أن تقول إن الحقيقة الوحيدة هي في الموت لأنه محتم، ولأنه يحرر الروح الحبيسة من قيودها؟ بتعبير آخر هل كانت شو تشترط الحقيقة بالحرية؟
يبقى السؤال بدون جواب، فقد كانت الأحداث تراوغ بكل شيء. وكلما اقتربت إحدى الشخصيات من اكتشاف جوهر حياتها تسقط في مصيبة. وكأن المعرفة أشبه بحفرة وربما مكيدة أو فخ. بينما الشك يضمن استمرارية النوع، وخذ جي لين على سبيل المثال، لقد صرحت في أكثر من موقف أنها تخون الأمانة، وهي لا تستحق معنى اسمها، وتقول في حوار درامي مع الذات: إنها تنجرف باتجاه خاطئ، ثم تضيف بصوت أعلى: نحن لا نستحق أسماءنا، وليس بيننا من يمثل حكمة كونفشيوس. وقد دعتها هذه المكاشفة لتجليات مؤسفة، ثم بالنتيجة لإطلاق اسم غربي مستعار على نفسها وهو لويز. ولم يكن صوت وليام أقل طيشا وعدوانية مع نزوع واضح لتدمير الذات. وتأتي أهمية صوته من سببين:
1 ـ إنه إنكليزي أبيض ويرمز للاستعمار والعقل أو العلم.
2 ـ ولأن لاسمه الصيني معنى واحدا هو النظام.
وإذا نظرنا إليه كوافد (عصفور من الغرب بلغة توفيق الحكيم) يصبح الطباق مثل نار على علم. ولكن لوليام خطأ يطارده. وهو جناية قتل. فقد تسبب بموت زوجته في إنكلترا. ويبدو أنها كانت السبب وراء حياته الحالية بما فيها من غياب للوعي واستسلام غير مشروط لمتطلبات المهنة وحياة الليل. ولكن كيف تحل شو هذا التناقض؟
اختارت شو استبقاء الروح وتبديل الصورة. واختارت للنهاية طبيبا مجاله الحالات الميؤوس منها أو الأموات. لقد ورطت «النمر الليلي» نفسها بمعارضة خط الرواية الوطنية الآسيوية. أولا نظرت لمعنى الهوية والمثاقفة على أنها صفة مكتسبة.
إنها تختار له النسيان بمزيد من الزلات والأخطاء. وليس التطهير. وتضعه على مفترق طرق وليس أمام ستارة النهاية، وهذا ما حصل في خاتمة المطاف (الفصل 51) حينما يأوي لسريره ولا يستيقظ، وبهذا المشهد موت النظام «المستعار والآثم» تنتهي الرواية.
ويبقى الفصلان (52 – 53) لوصف الجنازة ووصية الفقيد، وكلاهما كان سريع الإيقاع. ويعتمد على أسلوب التلخيص، بمعنى أن أحداثا كثيرة تجري بمساحة ضيقة، ولكن أبرز حدث فيهما هو ظهور شخصية الدكتور رولينغز الذي يأخذ مكان سلفه الدكتور وليام.
وجدير بالتنويه أن وليام طبيب جراح يعتني بالأحياء ويخفف من آلامهم، لكن رولينغز طبيب في المشرحة. ويعتني بالأموات. ومن الواضح أنه لا يهيئهم للدفن، وإنما يقطع أوصالهم ويمثل بهم على شاكلة، زومبي أو دراكولا، ولك أن تتخيل مقدار عنف ولا إنسانية هذا الإبدال. فهو انزياح في الأسماء فقط ولا يرافقه أي تبدل في السياسة أو الواقع العملي.
لقد اختارت شو استبقاء الروح وتبديل الصورة. واختارت للنهاية طبيبا مجاله الحالات الميؤوس منها أو الأموات. لقد ورطت «النمر الليلي» نفسها بمعارضة خط الرواية الوطنية الآسيوية. أولا نظرت لمعنى الهوية والمثاقفة على أنها صفة مكتسبة. ونحن نحملها بالولادة. فهي إجبار أو صدفة. مسألة حظ. ثانيا رأت أن الغرب والشرق شيء واحد. وما يجمع أكثر مما يفرق، وأن الطاقة الروحية هي الغلاف الحقيقي للحضارات. وثالثا وأخيرا وضعت الخلاف التقليدي بين الانتماء والالتزام بمستوى عمل شرطي لذاكرة انتقائية (إذا استعملنا لغة الناقد الأدبي حمزة عليوي) وهكذا تكون الشخصيات قد استكملت دورة حياتها بحثا عن سعادة مؤجلة، أو إنسان كامل. وعليه إن كل ما يقال عن تناص مع أعمال سياسية سابقة مثل «بيت الأرواح» لإيزابيل ألليندي أو «نصف شمس صفراء» لشيماماندا نغوزي أديشي، محض كلام من خارج السياق. فألليندي تبحث عن الأرض في ضمير كل شخصية، وتدعو لاستبدال ديكتاتورية السلطة بديكتاتورية الأفكار، وتعتقد أن الإنسان مشروط بمعيار ثابت، ولذلك نحن لدينا اتجاهات ودروب لتحقيقا إنسانيتنا. وهذا برأيها هو منبع الجدل السياسي، ومن ورائه الاختلاف في جوهر الحضارات.
وقل الشيء نفسه عن أديشي، إنها جزء من ثقافة وسط افريقيا، وتعتمد على التناقض بين موقع الشخصية وأفعالها. فهي تخلق حوارا لامتناهيا مع الذات، وأفكارها تنفصل أو تتجرد، ولكن لسانها يبقى هو هو. وتقسم نفسها على الشيء وعكسه. ويبقى خطابها في حالة ثبات، خطاب صالونات وحوار صور. وبوجيز العبارة إن أدوات أدب التحرير، ثم بناء الهوية غير متوفرة في «النمر الليلي». إنها بكل بساطة رواية بدون سجال، وبلا شخصيات طرفية. أساسا هي لم تسجل تناقضا واحدا بين العامل ورب العمل، أو بين المحلي والوافد. ولم تطلق رصاصة واحدة طوال ما ينوف على 400 صفحة من المصادفات والتخبط في الغابات وبين التلال أو في قاع المجتمع (المراقص وصالات القمار). لقد كانت كل شخصية تبحث عن معنى يأتي من الطبيعة العامة للحياة، وكان الجميع ينصهرون في أتون واحد، أو كما تقول جي لين: كانت حياة الجميع حكاية تروي نفسها.
ولن يغيب عن ذكاء أحد لماذا اختارت شو لصوت جي لين ضمير المتكلم، فهي بديل عنها. وربما هي صوت مالايو الاستعمارية التي تعتقد أن الغرب عبارة عن أمنية وقصة غرام. نعم هو غرام حافل بالمخاطر لكن نتوقع له الانفراج.
وفي النهاية أرى أن يانغشي شو تنظر لماليزيا بعيون غربية. إنها بعيدة عن إرادة أبناء المشرق وأمنياتهم وخططهم. وتبدو أقرب ما يكون لنزوع تنويري خجول على طريقة رواد النهضة العرب. عين على الغرب وعين على الشرق. مع روح مقسومة على نفسها كما هو حال «الدكتور جيكل والسيد هايد» للأسكوتلاندي روبرت لويس ستيفنسون.