وعند أذيال النساء تجف دواة علم الرجال!
جرت عادة أصحاب المعاجم والسير عند ترجمتهم لحياة علم من أعلام العلوم العقلية والنقلية والفنون المختلفة، ممّن غرز بصمة عميقة في سجل المسيرة البشرية، أن يشيروا إلى عينات بارزة من أساتذته وأخرى لتلامذته، ولاسيما العيّنة الأولى وذلك للدور الكبير الذي لعبه الأستاذ في بناء الشخصية موضع الترجمة، فالإنسان لا يولد وبين أصابعه قلم المعرفة وإنما هو يتعلم على يد معلم، وكلما كان المعلم لبيبًا فاضلا والطالب نبيهًا حافظا، كلما اشتدت عرى المعرفة وأنتجت شجرة المعرفة ثمارا طيبة.
ومن تواضع العالِم العلَم أنْ يذكر معلمه بخير، ومن تواضع الأستاذ أن يشير بالبنان إلى تلميذه النجيب، وهذه الحلقات المترابطة هي التي أنتجت سلسلة طيبة من الأعلام في شتى حقول المعرفة ومناحي الحياة في سبيل إستعمار الأرض لصالح من يدبّ عليها.
وإذا اشتهر في الأدبيات العربية أن الآباء أربعة: (أب ولَّدك، وأب زوَّجك، وأب علَّمك، وأب ربّاك)، فإنه اشتهر في آداب الأمم المثل: (وراء كل عظيم امرأة)، فالمرأة هي: أمٌّ وأختٌ وبنتٌ وزوجةٌ وكلُّ أنثى قريبة من الرجل سببا ونسبا، فالأم الصالحة تنبت شجرتها ثمرة صالحة، والأخت الصالحة تنشر في الأسرة ضوع الصلاح، والبنت الصالحة تنير في المنزل مصباح الفلاح، والزوجة الصالحة توقد في البيت شمعة النجاح.
والمثل على شهرته كالعملة المعدنية له وجهان، وجه مضيء وآخر مظلم، فالأول وقوده الهمّة والثاني وقوده التحدي، فهمَّة الرجال يزيد وقود المرأة مصباحها ضوءًا ولمعانا، وقد تقف خلف العالم الناجح امرأة فاشلة يزيده تثبيطها تحديّا مع ذاته والواقع فيتعالى من رميم الهِمَم إلى قلل الشَّمَم، وفي كلتا الحالتين فإنَّ للمرأة بوجهيها الدور المؤثر في حياته ورقيّه، وهذا الأمر ينسحب على الذكر أيضا، فالرجل الضاوي ينير جنبات البيت ويعتم أنواره الرجل الخاوي، على أنَّ الناس درجات و"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" سورة البقرة: 286.
وفي معظم الحركات التغييرية والتاريخية إنْ لم تكن جميعها، لابد للمرء أن يبحث عن المرأة وما تحت خمارها، فالسيف حاكٍ عن الرجال وشدّة الحماة، وعن النساء قلّما تحضر أقلام الرواة، وكلما تقادم الزمن عن الحدث التاريخي استصعب على الباحث بيان دور المرأة واستعجام ما أُبهم من أسماء واستظهار ما غاب من أداء.
وما حصل في كربلاء بأرض العراق عام 61 للهجرة من معركة غير متكافئة العدد بين جند الرحمن وجند الشيطان واستشهاد سبط النبي الأكرم وسيد شهداء شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، وما حلّ من سبي في الركب الحسيني من عياله وعيال الأنصار وأطفالهم، هي صورة اخرى للغبن الذي أصاب المرأة وبيان دورها النموذجي، والجِمال تتهادى بها الى مجلس الوالي في الكوفة، والخليفة في دمشق، يتصفح وجوههن جمهور المسلمين!
وفي زماننا الحاضر انبرى وبعد مضي أربعة عشر قرنا من الحدث المأساوي، إبن كربلاء الباحث والمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي ليتناول في ثلاثة مجلدات كبيرة دور المرأة في واقعة الطف حيث دلع لسان التاريخ ليفصح عن أسماء نسوية كادت ممحاة التذكار تزيلها من سجل التاريخ.
الباحثة والتربوية الكويتية الدكتورة فهيمة خليل العيد، تلقفت الأجزاء الثلاثة بأنامل القراءة الموضوعية وأدرجتها في كتيب من 45 صفحة تحت عنوان: (ملاح من أداء النساء على ضوء معجم أنصار الحسين للكرباسي) صدر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت.
قراءة واعية
يمثل الكتيب قراءة واعية متأنية للأجزاء الثلاثة من كتاب (معجم أنصار الحسين .. النساء)، حيث صدر الجزء الأول عن المركز الحسيني للدراسات بلندن سنة 2009م حسب الحروف الهجائية من الألف إلى نهاية الزاي وضم سيرة 40 شخصية نسوية في 511 صفحة من القطع الوزيري، وتبعه الجزء الثاني سنة 2010م من حرف السين إلى القسم الأول من حرف الفاء وضم سيرة 22 شخصية نسوية في 398 صفحة، وانتهى بالجزء الثالث سنة 2011م من بقية حرف الفاء إلى آخر الحرف وهو الهاء وضم 20 شخصية نسوية في 345 صفحة.
تعتقد الدكتورة فهيمة العيد في قراءتها وفق نظرة الكرباسي للمرأة، أنَّ: (الفوارق بين المرأة والرجل لا تعد مدعاة للإنتقاص من أي الطرفين ولا التفضيل)، فالفوارق العضوية الجسدية إنما هي فوارق في الوظائف، وإذا اختلفت الأحكام الشرعية بين الرجل والمرأة فإنما بسبب تلك الوظائف الجسدية او الجزئيات التي تتوفر عند الأنثى ولا تتوفر عند الذكر والعكس صحيح أيضا، ولهذا ترى الباحثة الكويتية وجوب: (أن تتضمن تلك الجزئية أي بحث خاص بالنساء يقترن بكتابة نظرة الإسلام لهن لفهم أفضل لأحكام الإسلام التي جاءت متناسبة مع تكوينهن، هذا التكوين الذي لا يمنعهن من أن يتولين مختلف المناصب الوظيفية في مؤسسات الدولة)، ولهذا تقدم توصية معرفية قلّما يدركها الكتاب: (فمن يكتب في تاريخ النساء يجب أن لا يغفل الفوارق بين الجنسين التي لها انعكاساتها على أداء وعمل النساء في الجوانب السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وبالتالي يؤثر في إصدار الأحكام على أداء النساء بشكل بعيد عن الموضوعية).
فالفوارق إنما هي مميزات جسمانية كما تؤكد الباحثة وذلك بناءً على قول الفقيه الكرباسي: "للمرأة خصوصيتها ومميزاتها التي تختلف عن الرجل وهذا لا يعني تفضيل أحد الجنسين على الآخر ... والتفضيل ربما يكون بسبب بعض الخصوصات الملائمة مع هذا الموقع دون غيره أو بالعكس، فيكون الأفضل بهذا الموقع دون ذاك وهكذا، إذاً لا تفضيل مطلقًا ولا ترجيح أبدًا".
وتناقش العيد نظرة الفقه الإسلامي إلى مشروعية تولي النساء القضاء والرئاسة السياسية والمرجعية الدينية من خلال رؤية الفقيه الكرباسي الذي بحثها بإسهاب في الجزء الأول من (معجم أنصار الحسين .. النساء)، فضلا عن مسائل كثيرة ناقشها المؤلف مثل: بلوغ الأنثى، نقصان العقل، الحجاب، الإختلاط، التعليم، العمل، ولاية المرأة، قيمومة الرجل، تعدد الزوجات، الحضانة، حق الطلاق، الإرث، الحِداد، الحرب، الدية، وغيرها من المسائل التي تخص الأثنى دون الذكر.
من هنا فهي ترى أنَّ: (النساء ينتظرن تصحيحا لأوضاعهن القائمة على أساس الرؤية الإسلامية، فهن يردن أن يجدن هذه الرؤية حول المرأة تطبق على وجه الأرض ويُلتزم بها فعليا في الحياة الإجتماعية، وليس الإكتفاء بمجرد الإطلاع على تلك الردود فحسب)، وهذه الرؤية مردها التجديد الذي عرضه الفقيه الكرباسي في الجزء الأوّل، ولهذا يجدر القول كما تؤكد: (بأن العلامة الكرباسي قد تجنب الإنفعال والإطالة، وما طرحه كان مركزًا وموجزًا، تجنب الإفراط في ذكر الأدلة، سواء في السنّة أو السيرة التاريخية، فجاء طرحه معينًا على شكل رؤية خاصة بالمرأة في إطار الشريعة الإسلامية من أجل الوصول إلى وعي نسوي أفضل والبناء على أرضية صلبة تقف عليها في حاضرها وتفيدها في مستقبلها).
أزمان وأدوار
تواصل العيد بيان "أداء المرأة في الأزمنة الإسلامية" متابعة لرؤية المحقق الكرباسي، ومناقشة لأدائها "في الزمن النبوي"، و"في الزمن العباسي" و"المرأة في العصر الحديث"، لتنتهي بوصفها ناشطة كويتية إلى مناقشة "أوضاع النساء في الكويت مثالًا".
ولا يخفى أن المرأة في العهد الجاهلي كانت صفرا على اليسار، لا يحسب لها أي حساب فضلا عن وأدها بعد ولادتها كما كانت هي عادة بعض العشائر العربية قبل مجيء الإسلام، ناهيك عن النظرة السوداوية التي كانت لدى عدد من المجتمعات في شرق الأرض وغربها، وهي نظرة أقل ما يقال عنها أنها مخالفة للفطرة الإنسانية ومتعارضة مع وحي السماء.
ونقلت تعاليم السماء المرأة من عالم المتاع والذيلية إلى عالم الذات والإستقلالية، وترى العيد ما يراه الكرباسي حيث: (منح الإسلام المرأة الحق في استقلالية القرار، ولا يخفى أن استقلالية القرار هي الأصل، والتبعية تحتاج إلى دليل) ومن نماذج الإستقلالية: قرار الزواج وقبول الزوج أو رفضه، الإستقلالية في المال وحرية التصرف به بعيدا عن إرادة الزوج، حرية التعبير عن رأيها، حرية العمل، وأمثال ذلك، وكما برز في العالم الإسلام فقهاء وعلماء ذكور برز فقهاء وعلماء إناث، ولم يعد التعليم مقتصرا على الرجال دون النساء.
وتنتقد العيد المقولات السلبية المتداولة في أدبيات الشعوب التي تنتقص من المرأة وكيونتها، وترى أن ذلك من نقص الرجال وخيبة أملهم فيستخدمون المرأة علّاقة يرمون عليها فشلهم في الحياة، ويزداد هذا في الميدان السياسي عندما يظهر نجاح المرأة وفشل الرجل ومحاولة بائسة من الرجل: (في كسر شوكتها وضمان احتكار الرجل للحراك السياسي، وغالبًا ما تنتشر تلك المقولات والتي خصص لها مؤلفات في أوقات سيادة الجهل والتعصب الديني، فغيب الدور التكاملي للرجل مع المرأة)، وهو رأي صائب وفي محله، فالذكورة ليست شهادة طابو على نجاح الرجل على الدوام في هذا المركز السياسي أو الإجتماعي وغيرهما أو ذاك، فحيث يفشل الرجل تنجح المرأة، والأمر خاضع للإرادة والإصرار ورجاحة الرأي، وهي خصال يتوفر عليها عموم الناس ذكرانا وإناثا.
وتنتقد الباحثة الكويتية بعض العادات والتقاليد والأعراف في المجتمعات العربية التي تحول دون أن تأخذ المرأة دورها في البناء ولا سيما في الحياة السياسية، وعلى مستوى دول مجلس التعاون الخليجي ترى: (ورغم إحراز النساء الخليجيات بعض النجاحات في الحياة السياسية ومشاركتها في الحياة النيابية إلا إنَّ حقوق النساء ما زالت منقوصة ومتأخرة بالمقارنة مع الدول الأخرى، فالقيود المفروضة عليها هي قيود اجتماعية تنفذ بإسم العادات والتقاليد، فضلا عن أنَّ هناك قصورًا كبيرًا بالقوانين التي تنصف المرأة .. في الكويت تعتبر النساء الأوفر حظًا في الخليج بالحقوق التي حصلت عليها، إلا إنَّ الطريق ما زال أمامها طويلًا)، وهي صادقة فيما ذهبت إليه، فنبي الإسلام محمد (ص) على سبيل المثال ارتضى في يوم الغدير عام 10 للهجرة البيعة من النساء والرجال وحتى بيعة الأطفال المميزين، ولما كان فعله وقوله وتقريره حجة على الأمة فيفترض أن لا تكون الأعراف الإجتماعية حاجزًا دون تطبيق التعاليم الإسلامية، ولكن واقع الأمة في جوانب عدة يتعارض مع واقع الإسلام، والذي لا يدرك حقيقة الإسلام يرمي سهامه عليه، وهي سهام طالما أصابت حقوق المرأة في مقتل.
ومن أجل فهم أفضل لدور المرأة وحقوقها، أميل الى مالت إليه الباحثة الكويتية الدكتور فهيمة العيد أنه: (من الواجب على من له القدرة على شرح ما حرره سماحة الكرباسي بشيء من التفصيل والتعمق فيما طرحه ليقوم آخرون بطرحه على مؤسسات الدولة ذات الشأن في الدول الإسلامية لمناقشتها ومن ثم سنّ القوانين المناسبة للمرأة).
الرأي الآخر للدراسات- لندن