«آفي ماريا»: موسيقى شوبرت والأغنية الكاثوليكية الأشهر عن السيدة العذراء
المدينة نيوز: كثيرة هي الأصوات التي نسمعها تغني آفي ماريا، فقد حرص على أدائها كل تينور بداية من كاروسو، وصولاً إلى آخرين مثل بافاروتي وبوتشيللي، وتغنى بها أيضاً الكثير من الأصوات الأنثوية، ومشاهير نجوم البوب والمنوعات، ويمكن الاستماع إليها بلغات متعددة كالألمانية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية، وبنسخ كلاسيكية لكل من باخ وغونو وفرانز ليست، أو تنويعات مختلفة على اللحن الأساسي، وأغنيات تنطلق بكلمات وألحان جديدة تماماً، بعد أن تبدأ بمطلع الأغنية الرئيسية، التي تعود إلى الموسيقي النمساوي فرانز شوبرت، الذي توفي عام 1828، وهو لم يتجاوز الحادية والثلاثين من عمره، ودفن إلى جوار حبيبه بيتهوفن، واجتمعا معاً، كما يجب أن يكون، بعد أن لهج كل منهما باسم الآخر في لحظات موته كما يقال، وقد وصفه الموسيقي الألماني روبرت شومان بأنه النسخة الرقيقة من بيتهوفن، مات شوبرت منكوباً جسدياً وعاطفياً ومادياً، معذباً بائساً، لا يكاد يجد من يشتري مؤلفاته الموسيقية، رغم عبقريتها الفذة، ويعد أول من أضاف الكلمات إلى الموسيقى في زمنه، وأبدع الأغنيات المنفردة بعيداً عن الأوبرا، وتحديداً الأغنيات الرومانتيكية للصوت الوحيد المنفرد مع البيانو، ولحّن الكثير من الأشعار الوجدانية.
وعندما نستمع إلى بعض من هذه الأغنيات، نفهم على الفور لماذا أغرم به كثيراً كل من فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، حيث تظهر قدرة شوبرت الماهرة على تلحين الجملة والكلمة، بل الحرف نفسه، وتعد أغنية «آفي ماريا» النموذج الأمثل لتأمل تلك الموهبة، ويكفي تلحينه فقط لكلمة آفي واسم ماريا، فكل حرف من حروفهما يعد لحناً جميلاً، واختباراً صوتياً صعباً لكل من يغنيه، ومقياساً دقيقاً ومذهلاً يفرق بين الأصوات ومستوياتها، من حيث القوة والجمال والقدرة التعبيرية، والإحساس وكل شيء، ويمكن للسامع أن يجلس مستريحاً ويصنف الأصوات ويرتبها كيفما يشاء، وفقاً لهذا المقياس.
وقول «آفي ماريا» هو صلاة كاثوليكية في الأساس، وهو أيضاً عنوان الأغنية ومطلعها الذي تبدأ به، كما أنه الجزء الثابت دائماً في كافة الأغنيات، أما بقية كلماتها فتدور حول الشكر والتمجيد والتسليم والاحتماء، وتعتمد على الإعادة والترديد للكلمات القليلة نسبياً، وما أجمل تلحين شوبرت لاسم ماريا وطريقة تنغيمه، وهذا الحنان البالغ في إمالة حرف الراء والضغط برقة شديدة على حرف الياء ومده، ثم الانطلاق بحرف الألف نحو السماء وكأنه ينفتح بنا على النور، ولا نعرف كيف يمكن أن نصف موسيقى شوبرت، حيث يجبرك الجمال على الصمت أحياناً، هذه الروح التي تسري في الموسيقى، وكأن ضربات البيانو هي ضربات قلبه، وإذا كان للمشاعر صوت فإننا بالتأكيد نستمع إلى اختلاجاتها وجيشانها في نفسه.
هذه الأغنية لم تكن يوماً حبيسة الكنيسة الكاثوليكية، بل انطلقت تخاطب قلوب الجميع من مختلف الأديان والطوائف، وربما يكون لها التأثير الفني الكبير حتى في نفس من لا يمتلك أي مشاعر دينية
هذه الأغنية لم تكن يوماً حبيسة الكنيسة الكاثوليكية، بل انطلقت تخاطب قلوب الجميع من مختلف الأديان والطوائف، وربما يكون لها التأثير الفني الكبير حتى في نفس من لا يمتلك أي مشاعر دينية، ولا يؤمن بأي عقيدة، فنحن أمام عمل فني خالص، وتحفة موسيقية بارعة الإتقان، لا ذلك النوع من الأناشيد والترانيم المباشرة التي تسعى وراء المشاعر السطحية وربما غير الصادقة، وعندما نتحدث عن النسخة الأصلية فإننا نعني الأغنية الألمانية، بكل تأكيد، ولا شك في أنها الأجمل والأكثر جلالاً وصفاء، ومن أجمل وأحدث الأصوات التي تغنيها حالياً، هي المغنية الألمانية هيلين فيشر. أما النسخة الإيطالية فهي الأشهر والأكثر استماعاً، ولا نبالغ إذا قلنا إنه يمكن الاستماع إليها طوال اليوم بأصوات مختلفة، من كثرة ما تغنى بها نجوم الغناء الأوبرالي وغير الأوبرالي في العالم، ونجوم الأوبرا هم الأقدر بالطبع على أداء هذا اللحن صوتياً بشكل سليم، ويكون التميز من نصيب المغني الأكثر إحساساً وقدرة على نقل المشاعر إلى المستمع، مثل التينور الإيطالي أندريا بوتشيللي، والتينور الفرنسي فنسنت نيكلو، ويستطيع هذا اللحن أن يكشف عن بعض الضعف في أصوات أسماء كبيرة مثل فرانك سيناترا، الذي يغني آفي ماريا بالإيطالية وتظهر معاناته الصوتية مع مطلع الأغنية الصعب.
أما النسخ الإنكليزية من هذه الأغنية فأشهرها لسيلين ديون، التي أضافت إليها الجديد من الموسيقى والكلمات وتتمكن من بدايتها، بفضل صوت السوبرانو الذي تمتلكه، ونجد أغنية أخرى بالإنكليزية أيضاً لباربرا سترايسند، التي لم تشأ أن تترك هذه الأغنية إلا وقد وضعت صوتها عليها، وتعد نسختها الأسوأ على مستوى الغناء والأكثر جموداً وخلواً من الروح والعاطفة، أما الأغنيات الفرنسية، فنجد من أجملها ما أبدعه شارل أزنافور في نسخته الخاصة من آفي ماريا، في الغناء بأسلوب فرنسي خالص، والكلمات التي تدور حول معاناة البشر واستمداد القوة والشجاعة، وطلب النور والنقاء، وبالفرنسية أيضاً تغني هيلين سيغارا في المسرحية الموسيقية «نوتر دام دو باري» تحفة التسعينيات الشهيرة، نسخة جميلة ورائعة من آفي ماريا، حين كانت تلعب دور إسميرالدا بطلة رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، وانطلاقاً بوحي من الأغنية الأصلية تناجي الفتاة الغجرية الجميلة الضعيفة سيدتها العذراء، وتكشف عن كل ما في قلبها من مشاعر ومخاوف وأحلام لن تتحقق، وبفضل صوت هيلين سيغارا الرقيق وانغماسها بالكامل في مشاعر إسميرالدا، كانت هذه الأغنية صادقة ومؤثرة إلى حد بعيد.
٭ كاتبة مصرية