الوثائقي «ليا تسيمل… محامية»… العدالة الخاسرة في إسرائيل
المدينة نيوز: هذا ما قالته المحامية الإسرائيلية ليا تسيمل، حين سألها أحد الصحافيين خارج قاعة المحكمة عن اسمها، وقد خسرت قضيّتين دافعت عنهما، لإسراء جعابيص وأحمد مناصرة: «ليا تسيمل… محامية خاسرة»، وهذا الدفاع عن القضيّتين هو الخط السردي الأوّل والرّاهن للوثائقي «ليا تسيمل.. محامية» الذي أخرجته الأمريكية الإسرائيلية راتشيل لياه جونز، وفيليب بيلايتش.
محامية خاسرة، المحامية المدافعة عن الأسرى الفلسطينيين منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى اليوم، تعرّف نفسها بذلك لوعيها التلقائي، بعد تجربتها الطويلة، بطبيعة «العدالة» في دولة كإسرائيل. العدالة بمعناها المجرّد، وكذلك بمعناها المادي في القضايا التي ترافع هي للدفاع عنها، وهذا الدفاع هو سياسي وتاريخي أساساً، أوسع من الفعل الذي يُتّهَم الفلسطيني بارتكابه، هو اتهام بالإرهاب (أو التخريب كما شاع التوصيف الإسرائيلي قبل زمن)، الفعل ذاته الذي قالت عنه تسيمل في مقابلة تلفزيونية حين سألتها المحاوِرة لمَ تدافع عن «إرهابيين»؟ إذ صحّحت لها: أنتم تسمونهم هكذا، لكن أي إنسان عادي في هذا العالم سيسميهم «مناضلون من أجل الحرية».
ليا تسيمل، بتسمية نفسها خاسرة، واعية بطبيعة العدالة التي تواجهها في محاكم إسرائيل، واعية للفعل الفلسطيني الذي يسميه الإسرائيليون، مجتمعاً وأنظمةً وصحافة: إرهاباً. تعرف أنّها تدافع عن قضايا خاسرة، لأنّ السياق الذي تدافع عنها فيه، هو سياق ظالم.
فدائيون أو ثوّار أو أطفال، تحاكمهم إسرائيل ضمن قوانينها وفي قاعاتها، أيّ قضية يمكن أن تكون خاسرة أكثر من هذه؟ أي محامٍ سيحمل تلك الملفّات عابراً بها شوارع القدس إلى المحكمة، يرافع بالصّوت العالي أمام القضاء وأمام الإعلام، بدون أن يعرف أنّها قضايا خاسرة؟ أيّ محام يمكن أن يحمل المزيد من هذه القضايا، يخسر واحدة فيستلم أخرى، بدون أن يكون واعياً بأنّها خاسرة ثم يصرّ على استلام تلك القضايا الخاسرة مجدداً، ما لم يكن يؤمن بعدالة أصحاب هذه القضايا، بعدالةٍ ما خارجَ قاعات المحاكم، وخارج أنظمة الدولة الإسرائيلية! والعدالة، كأي شيء آخر، نسبية.
نقلَ الوثائقي حكاية تسيمل من خلال خطين سرديين بزمنين منفصلين، الأول وهو الرئيسي، هو الراهن إذ تدافع عن جعابيص ومناصرة. أما في خطّه السردي الثاني/الثانوي، فقد نقل الفيلم البدايات المتناقضة في حياة تسيمل
لذلك قضايا تسيمل داخل قاعات المحكمة، خاسرة مسبقاً. القضايا الفردية الخاسرة التي تدافع عنها تسيمل، تحمل معاً، عموم القضية الفلسطينية، التي لا يمكن لمحام يؤمن بعدالتها وبأن العدالة ستنتصر يوماً، إلا أن يستمر بالمرافعة دفاعاً عنها. الدفاع هنا أخلاقي وسياسي، وليس قانونياً، دفاعٌ رمزي ينتهي شكلاً داخل قاعات المحكمة، ويبدأ مضموناً خارجها.
لذلك كلّه، قالت تسيمل لأهالي أحد الفلسطينيين المتّهمين، إنّها لا تكسب القضايا، إنها لن تستطيع أن تُخرج فلسطينياً من السجن الإسرائيلي، وتهمته هي «الإرهاب»، وإنّ ما تعمل عليه هو تخفيف الأحكام وحسب. ما استطاعته في القضيتين راهنُ هذا الوثائقي، هو سنة أو سنتان أُسقطتا من الحكم باثني عشر عاماً، أكثر أو أقل. قد لا يعني ذلك الكثير لنا (لنا وليس لإسراء وأحمد وعائلتيهما) لكنّه لمحامية بتجربة تسيمل، هي استمرارية لمرافعة واحدة بدأتها من السبعينيات، تقاتل أنظمة الدولة، بالمُتاح، بالممكن، بعناد صلّبته عدالةُ موضوعها.
عرفتُ اسم تسيمل، أوّل مرّة، في كتب الماركسي الفلسطيني أحمد قطامش، «مداخل لصياغة البديل» و«لن ألبس عباءتكم» وغيرهما، صدرت جميعها عن دار كنعان في دمشق. والكتابان المذكوران من بين الأهم عربياً في تجربة الاعتقال، وقد دافعت تسيمل عنه خلال سنين طويلة وبفترات اعتقال متفاوتة، منذ كان عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (ومرشّحاً لأمانتها العامة) مروراً بانفصاله تنظيمياً عنها، إلى اليوم، إذ أعادت إسرائيل اعتقاله قبل أسابيع قليلة.
من هنا أتى الاهتمام بالفيلم، الذي كان، فعلاً، قوياً في مضمونه، وهذا يعود للمحامية وسيرتها، وكان قوياً في شكله وطريقة السرد فيه. وقد خلا من أي ذكر لقطامش، وحين سألتُ مخرجتَه عن ذلك قالت إن «دفاع تسيمل شمل، حرفياً، عشرات الآلاف من الفلسطينيين»، والكثير منهم معروف، ولم يتّسع لهم الوثائقي لكبر التجربة وقصر المدّة التي قاربت الساعتين.
نقلَ الوثائقي حكاية تسيمل من خلال خطين سرديين بزمنين منفصلين، الأول وهو الرئيسي، هو الراهن إذ تدافع عن جعابيص ومناصرة. أما في خطّه السردي الثاني/الثانوي، فقد نقل الفيلم البدايات المتناقضة في حياة تسيمل، وما لحقها من عملها في المحاماة دفاعاً عن فلسطينيين ويهود، طالبوا بحقوق مساوية للجميع داخل دولة إسرائيل، هو مطلب أساسي لفلسطينيي الثماني وأربعين اليوم: «دولة لجميع مواطنيها»، أساسي وصريح، وهو، وقتها، كان مطلباً ثورياً يستدعي الاعتقال والمحاكمة.
لعلّ ما نقص الفيلمَ (Advocate) كان تجربة دفاعها عن أحمد قطامش، لغنى تلك التجرية التي إن كانت لتُحكى، لاستلزمت – ربما- وثائقياً خاصاً، يحمل اسم قطامش. خلافاً لذلك، الفيلم الممتاز شكلاً ومضموناً والمشارك في مهرجان «سندانس» السينمائي بعرض أوّل، أتى بانتقالات بين خطّي السرد الزمنيين مكمّلاً أحدهما الآخر، محيطاً بالبدايات الانعطافية في حياة تسيمل إلى مسيرتها النّضالية كمحامية خاسرة لفلسطينيين أصحاب قضية لطالما كانت خاسرة في عالم، كالذي نعيش فيه، حيث القضايا العادلة هي الخاسرة، إلى اليوم حيث تواصل بأسلوبها وبمجالها وبالممكن مرافعاتها العبثية.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا