«فشلٌ بأذنين طويلتين»
المدينة نيوز: فشلتُ في أن أكون زرًّا مرتخيا في معطف مسافر ينتظر القطار في محطة بعيدة، وفي أن أكون القطار الذي يعوي في القفار. أن أكون لحنا حماسيّا في أغنية، أو تجويفًا في مخيلة، خدشا على نهد امرأة، أو تنهيدةَ رجل خذله العمر والزوجة والأولاد. وفي أن أكون غفوة راعي الأبقار بعصا يابسة وقنينة شاي بسدّادة من فلين. في أن أكون دمية في غرفة طفلة شقيّة مات أبوها في الحرب واختنقت أمّها بالغاز في حمّام البيت. في أن أكون دملجًا رخيصًا في معصم جدّة تجلس وسط أطلال دارسة، بعدما تخرّب بيتها، وسرق اللصوص أغراضها، ومات أولادها وأحفادها برصاص الشرطة.
فشلت في أن أكون سعيدًا مثل آلة حاسبة، وفي أن أكون حزينًا مثل كأسٍ متروكة في شرفة الليل، وانتهيتُ هكذا ببيانات غامضة على وجهي، كما فشلتُ في أن أكون طويلا مثل بولة صباحية، أو قصيرًا مثل حلمٍ. عريضًا مثل باب السجن، أو ضيّقا ومحصورًا مثل فلول جيش مهزوم. وفي أن أكون مثل المعنى مستقيمًا أو ملتويا مثل أغصان شجرة اللبلاب.
فشلتُ في أن أكون جدّيا أعيش بعرق جبيني ولا أستعطي أحدًا، لا حكومة ولا مجتمعًا مدنيًّا. وفي أن أكون متسلقَ جبالٍ وعرة متفوقًا في الرشاقة على الوزراء العرب الذين يفكّون حزام السروال كي يُخفّفوا الضغط على بطونهم العامرة بالأموال المسروقة. وفي أن أستيقظ باكرًا مزهوًّا بوضعي الاعتباري مثل، عمّال النظافة، وفي أن أنام باكرًا فأرى أوداجًا منتفخة في المرآة وأضحك.
فشلت في أن أكون ثائرًا وغاضبًا لا أسكت على الجوع، فأجرّ الحبل وأفكّه من الوتد وأنطلق إلى الحقول المجاورة، لأتسلم حصّتي من الأرض. وأن أمزٌق الكيس بأسناني وألتهم ما في جوفه، عكس الفقراء الذي يبيتون على الطوى، ويرفعون أيديهم المشققة إلى السماء وكأنّ الله هو السبب، ويخافون من رئيس عملهم أكثر من الله ومن تأنيب الضمير. وفي أن أكون مناضلا غامضًا، أبحث في كلّ مرّة عن من يفتح لي باب بيته كي يطعمني مثل عصفور مبتل الجناحين، وربما وضع في يدي شيئًا من المال لأتدبّر به بقية المساء، وصباح اليوم الموالي، وبمجرد ما أشبعُ أصيرُ لئيمًا وأتمرّد، موزعًا بذاءتي بالتساوي على من أطعمني وعلى فصيلته.
فشلتُ في أن أكون فيلسوفا صامتا أسخر من الرأسمالية، وأعتبرها أنانية مفرطة، ومن البورجوازية، وأعتبرها تلوينًا مصطنعا، ومن الماركسية التي هي مجرّد إشاعة خطيرة. وفي أن أكون شاعرًا حقيقيا على طريقة الحمار، عندما يُمطّط أذنيه ويصفّق، وعندما يتمدّد على رمل ساخن ويتقلب، وعندما يسند رأسه على حائط ويغفو، وحين يحرّك ذيله سعيدًا بأشياء غير واضحة، ومع ذلك يتأفف من كتابة الشّعر ويكتفي بحفنة شعير بين استراحة وأخرى. وفي أن أكون متواضعًا مثل الحمار نفسه مكتفيًا بحذاءٍ واحد، عبارة عن صفائح من حديد، وجاكيت محشوة بالتبن مشدودة إلى بطني بحبل من الدوم. وفي أن أكون متكبّرًا وجبّارًا مثل منارة، لكن متى ستصل مراكب الصيّادين وسفينة الأحبّة؟
أشدّ ما فشلتُ فيه هو تربية فراشات في قلبي، وجلستُ أربّي وسواس الليل، وقلق الصباح، وتثاؤب الظهيرة، بدون أن أستطيع التمييز بين حاجتي للأكل، وحاجتي للذهاب إلى دورة المياه، بين حاجتي للإيمان وحاجتي لمزيد من الشك.
فشلتُ في أن أكون قريبًا من إدغار آلان بو في رعبه، من تولستوي في دقّة وصفه، من موباسان في مرضه، من برنارد شو في سخريته، من أبي العلاء المعري في عزلته، من ابن الفارض في زهده، من بشار بن برد في ذمامته ونتانة ملابسه، من محمود درويش في رهافته. ومن نفسي أنا في مزاجيتي.
فشلتُ في أن أكون وزيرًا في حكومة انتقالية، وأسرق نصف الوطن في الصباح ونصفه الآخر في المساء، وأظهر في مكان بعيد باسم جديد وعائلة جديدة ومظهر جديد، تاركًا الوطن والحكومة خلفي. وفي أن أكون طبيبًا غشّاشًا بمشارط مسمومة في عيادة خاصة، أمضغ العلك، وأدعو في داخلي مزيدًا من المرضى والمعطوبين. وفي أن أكون جزّارًا بسكين كبيرة في يدي، وبقع الدم على سترتي البيضاء، وأن يختلط أمري وأمر الطبيب على العباد، أبيع لحم الكلاب والقطط لسيّاح موسميين، وأرسل كثيرين إلى الطبيب الذي لم أكنه.
فشلتُ في أن أكون مهندسًا بخوذة بيضاء أبني شقق السكن الاقتصادي لصغار الموظفين، وأتراجع إلى الخلف لأتركها تسقط فوق رؤوسهم قبل أن أظهر في التلفزيون، وأرفع أصبعي مشيرًا إلى الله. وفي أن أكون أنا الموظف الصغير خلف مكتبٍ في إحدى الإدارات الواقعة في بناية عامرة بالرطوبة وأعشاش الطيور، وأفني العمر صامتا ومستلذًا جبروت وتعسّف رؤساء العمل، قبل أن أنتهي متقاعدًا بلا عائلة ولا أصدقاء، وربمّا متّ وحيدًا وشاعت رائحتي بعد أيّام.
فشلتُ في أن أكون إمام مسجد بإيمان مغشوش، ولحية مستعارة أصلّي بالنّاس وأحذرهم من الشيطان، قبل أن أعود وأستعير طفولتي القديمة وأبحث عن الشيطان بعودٍ رقيق، وسط أكوام التراب. وأن أكون أنا الشيطان نفسه الذي يظهر في الليل ويتنكر في النهار.
فشلتُ في أكون سائقَ شاحنة كبيرة، أقتل الكلاب والدجاج في الطريق القروية، وأرى وجهي في المرآة العاكسة وأبتسم، وربما أرسلت في خيالي قبلة إلى زوجتي، وسلّة فواكه إلى أطفالي. وفي أن أكون بريئًا كالأطفال، ونظيفًا مثل صديقي الأستاذ الذي يستخرج كنزًا ثمينًا من أنفه، تم يلفه على شكل كرة بأصابعه قبل أن يُغافل الجميع ويلتهم الكرة.
فشلتُ في التمييز بين الأبيض والأسود بعدما احتشدت ظلالٌ كثيرة في عيني وانتهيتُ أعمى وسط قبيلة من المبصرين، ومع ذلك مازلت أعتمد على نفسي في الوصول إلى المقهى والعمل. وفي التمييز بين رائحة العطر ورائحة ثيابي، بعدما جُدعَ أنفي بسبب كثرة ما شممتُ من روائح القمامة في شوارع الوطن، وروائح أحذية الضيوف وآباطهم.
وأشدّ ما فشلتُ فيه هو تربية فراشات في قلبي، وجلستُ أربّي وسواس الليل، وقلق الصباح، وتثاؤب الظهيرة، بدون أن أستطيع التمييز بين حاجتي للأكل، وحاجتي للذهاب إلى دورة المياه، بين حاجتي للإيمان وحاجتي لمزيد من الشك. وانتهيتُ بلا ملامح مثل الماء، حائرًا ومرتابًا بدون أن أملك الجسارة لأحفر بئرًا وأسقط في جوفها، أو على الأقل أن أسدّ الفتحات بالجوارب وأفتح سدّادة الغاز وأنتهي فيزيائيًا بطريقة بشعة.
فشلتُ في أن أمطط لساني بكماشة وأقول جملتي الأخيرة وأغلق الباب، أريدها فصيحة بلا عوازل ولا وساطات. وفي أن أرفع يدي وأهشّ الذباب عن وجهي حتى تكاثر وصرت أتخيل وجهي قشدة فاسدة، الأطفال الأشقياء يلحسون وجهي وأنا أبتسم.
فشلتُ في كلّ شيء، وفي أن أقنعكم بكلماتي، أعرضها على عربة عند مدخل النهار، لكن ما ذنبي إذا كنتم عميان مأخوذين ببضاعة فاسدة؟ هل سأفتح عيونكم بملقاط الحواجب وأصبّ الضوء فيها كي تنتبهوا؟ لستُ تاجرًا محترفًا كي أضللكم، ولا إلهًا ولا أحمل نبوءة.
٭ كاتب مغربي