”أحوال العالم الزائل“ للمصري أحمد عبدالعاطي.. توغل في حياة العباقرة
المدينة نيوز:- يستفرد الكاتب المصري أحمد عبد العاطي، بمشاعر القراء في رحلة سردية مكتظة بالوحدة والغرابة والشحوب في روايته“ أحوال العالم الزائل“، وهي الصادرة عن دار تبارك 2020.
وينزع عبدالعاطي إلى استخدام لغة حكائية سهلة في أغلب مواطن سرده، حيث يسرد بطل الرواية قصته للعالم.
ويعمد الروائي المصري في بنائه السردي إلى استخدام أدوات سينمائية، لإيصال فكرته. فطريقة ”القطع“ التي استخدمها لم تكن سوى للفت انتباه القارئ، وجذبه أكثر فأكثر، كما أن لعبد العاطي مهارة برصد أدق تفاصيل المشاعر الإنسانية من قلق، وتوتر، وحزن، وتدوير للذاكرة، خلال سرده.
وبدت في حيثيات السرد، الزوايا المختلفة التي يقف من خلالها عبد العاطي ليلتقط المشهد، ما بين مخاطبة شخص البطل لذاته، أو لمن حوله، أو التذكر والرجوع للماضي، حتى التعمق في رحلة الطفولة، وهو تسريد تاريخي للشخصية، لفهم جذور كل صفة، كل هذا أضاف للرواية أبعادا متنوعة، لفتح الباب أمام وعي المتلقي للمزيد من التفعيل.
رواية الكاتب المصري، ترتكز أحداثها على الخوف، والوحدة، والغربة، والعزلة، حيث يروي مأساة رجل ثلاثيني، تشده خيالاته للداخل عميقا، بحيث يلد الوهم له طفلين-ياسين ويمنى- ويكون في تعايش ذاتي هادئ مع وهمه، إلى أن تثور داخله فكرة الفقد، فبعدما كبر ياسين في وعيه المخترق، ينفتح الجرح في حياته ليصنع له أبوابا على الجحيم، فيختفي ياسين، أول أسباب غربته عن العالم.
ولا تكمن كارثة بطل الرواية ”حازم“ في فقده ابنه فحسب، بل كونه الوحيد المصدق لفكرة أن ياسين مات، بل وفي وجوده أصلا، ويتكرر هذا البؤس بوطأة أخف بأوهامه بفقد ابنته يمنى أيضا، والعم سعيد، من قبلها، وصديقه أيمن، شخصيات تمر على عالمه، وتزول دون أن يقر بها أحد من حوله، هو الوحيد الذي يراها، ويشعر باختفاء أثرها.
إنها مأساة الافتقار إلى المشاركة في الحزن، فجميع العالم حوله بلا أيد، في وقت كان بحاجة ليد واحدة، تنقذه من انزلاقه. يكتب عبد العاطي: ”لو أنهما تعرضا لمكروه وأصابهما ألم ولو بقدر وخز إبرة فقط، يعزز هذا الحزن داخلي، نعم، لكن سيصبح حزنا جماعيا، أشاركه أحدا وينتهي الأمر. أما الآن، على أي شيء يجب أن أحزن؟ أمن الذكريات؟ أم أنه لم يعد بمقدوري الإمساك بحقيقة واحدة؟ حزني يسير وحده في طريق منذورة للنسيان، هو الآخر لا يمكن مشاركته ولا يصح التصريح به، أنا وحدي تماما كما لو أنني أسير في عالم متهتك بلا حزن إلا حزني، بلا ذاكرة إلا ذاكرتي“.
ويتحسس الكاتب صفات بطل الرواية المصاب بالذهان، حيث لامس شخصيات عبقرية من المفكرين والأدباء، فلم تكن العصابات الاكتئابية عند غوته بمعزل عن حالة حازم، ولا أزمات هلوسة رامبو، كما انهيار عقل نيتشه في قمة عبقريته، وميول غوغان وفان غوخ للانتحار، كلها حالات تجعل الفضول يزداد لاكتشاف جانب هام من شخصية حازم، كان في البداية غامضا، لكنه تكشف أخيرا، فهو كان ذلك الشاعر الموبوء بالعبقرية، تلك الخصلة التي تعزله عن العالم النمطي، وتحبسه في جنونه، كما إنطوان آرتو، وجان جاك روسو.
لعل عبد العاطي يفرغ في هذا النص إرثا كبيرا حمله كافة المفكرين والأدباء، واختبر شعورهم بالعزلة والتغريب عن الواقع، بقصة شخصيته ”حازم“. ولعله كأي مثقف يحمل فكرة مستخلصة من معارف مختلفة، أراد لهذا العبء الثقيل أن يكون متاحا للجدل أمام القارئ، هي لربما عقدة الشعور بالذنب، من كون العالم هذا على هيئته، دون تغير للأفضل، أو الشعور بالذنب لعدم القدرة على الاندماج في هذا الواقع الرديء.
ولأن الكتابة هي السياق الأكثر استيعابا للجنون، ومجرى لأولئك الغارقين في أفكارهم، يختتم عبد العاطي روايته بالقول: ”سأجوب النهر فيختفي النهر، وأجوب السماء فتتلاشى السماء، سأنكب على قصتي أكتبها قبل أن يسحبها الخفاء، وسأنكب على ماضيّ ألعنه قبل أن يحيق به الغروب“.