”الوصول إلى الليطاني“ للفلسطينية هنادي العنيس.. الحياة داخل صناديق الذكريات
المدينة نيوز: تخوض الكاتبة الفلسطينية هنادي العنيس مسارات متشعبة في الداخل الإنساني، وتفند أحداثا عالقة في الذاكرة بطريقة ذكية في مجموعتها القصصية ”الوصول إلى الليطاني“ تلك الصادرة عن دار قنديل للطباعة والنشر والتوزيع 2019.
تبرُّؤ
وخلال رحلتها الحكائية، تمنح العنيس لكل شخصية لغتها الخاصة، ومشاعرها المنوطة بتركيبتها الفكرية. فكأنما هنالك حالة تبرؤ من كل ما يصدر من الكاتبة من عاطفة وملامح وحركات وألوان وأفكار، تقوم بسكبها جميعا داخل شخصيتها.
وتتبع الكاتبة الفلسطينية الطريق السهلة في مشاكسة اللغة، فلا يتعكر صفو السرد لديها، بتلك الكلمات التي تسقط عند الكثيرين، كشوائب في لغتهم. كما تجيد مهارة ربط الفكرة بالأخرى، وكذلك الحفاظ على تدفق المادة السردية دون انقطاع.
أدوات السرد
وتُلمح البنائية في قصة العنيس إلى وعي الكاتبة بأدوات السرد القصصي، وامتلاك المساحة الخاصة في البعد عن ”تكرار الأنماط“، فطريقة الاستهلال والتدرج في خبايا الشخصية، ومعالجة الفكرة، كلها خطوات لا تخلو من الغموض، وكأنها تقدم يدا للأمام وتخفي الأخرى.
كما وأن المناطق التأملية في قصصها، قائمة على التقاط البروزات، والعقد، والخدوش، والسقطات، والتكلسات، التي تتخفى بعض الوقت في ذاكرة الإنسان، لكنها تعود مكثفة في لحظة ما، لتجعله داكنا، كلونها.
التورط
ففي قصة ”الأربعاء الأكثر حزنا“، تطرق العنيس الباب الذي يفتح للداخل الإنساني، حيث المناطق المهجورة، والتي في الكثير من الأوقات يساء معرفة تفاصيلها، فتكون النتيجة التورط فيها. ففكرة فتح ألبوم الصور، تستخدمه الكاتبة كرمز للنبش في الأغوار القديمة، داخل الإنسان. فتكتب العنيس عن لحظة اندماج شخصيتها مع ألبوم الصور:“ أحيانا كثيرة تروادني الرغبة في التخلص منه، كوني حقا، لا أرغب في استعادة هذا كله، فلِم عليّ تجميد اللحظات الفائتة والبحث عن أثرها في كل مرة؟“.
ولأنها هنا تستخدم ضمير المتكلم، وكذلك في قصص أخرى، فإنها تبدو قريبة جدا من حاسة القارئ، وتجيد الالتصاق به، حتى يصير البوح بمثابة طاولة دائرية، يجلس عليها شخصان، كلاهما يسرد للآخر. هذا ما ألمح إليه كارلوس ليسكاندو حين قال:“ الكتابة، أن تجرب لعبة كونك الآخر“.
الفقر
وتمسك العنيس في القصة ذاتها، بندبة غائرة، تعيش داخل الجمع البشري، تتحسس خشونتها، وتعبر عن استفزازها باللغة، حين تكتب:“لم يسألني الأشخاص ذاتهم ما إذا أردت حقا الاحتفاظ بصورة تذكارية لي أيضا، دون أن أضطر إلى البكاء في الحمام، في كل مرة، لأني لا أملك ثمنها كما البقية ممن هم في سني. شعرت بأنه مهما كان وزن الفقر فإنني مجبرة على حمله، ولحسن الحظ لم أشعر بالرغبة في الانتقام“. وهل من ندبة أكثر أثرا من الفقر في حياة الإنسان؟
خفافيش
أما قصة ”في انتظار هديل“ فتصف العنيس حالة الإنسان المصارع للوقت، الذي تكون أعصابه في حالة فوران دائم، كأنما شعلة تحتها. فتكتب:“ شعرت هناء بأن الكلمات تتساقط واحدة تلو الأخرى، بينها وبين السرير، ولم تدر كيف تلمها. حاولت أن تفتح موضوعا ما معها، تذكرها وهي تزعجها بالأسئلة عن طريقة تكاثر الخفافيش، وتطلب منها أن تخبرها، ماذا تتمنى أن تصبح حين تكبر، أن تسمعها تضحك معها مثلما كانت تفعل“.هي لحظات تشبه الوقوف على حافة جبل، حينما نكون مجبرين على مرافقة من نحب، في مرض خطير.
ثقب المشهد بالدبابيس
وتلتقط كاميرا العنيس مشاهد من الحقيقة، ولحظات ملامسة للواقع العربي، جراء أحداث العنف والحروب المتكررة في العديد من البلاد العربية، لكنها تقيم معالجتها الفنية للصورة بالمزيد من ثقب المشهد بالدبابيس؛ تجعله نازفا. فتكتب في قصة“من نسعف أولا“، في مشهد خروج الطفلة، من بين الدخان، عقب انفجار عرضي في المكان، وتخاطبها شخصية الحدث:“ سأستدعي النجدة، الآن أود منك أن تبقي بأمان، أن تبقي على قيد الحياة، انظري إليّ، لن نموت اليوم، أتمسعينني؟ لكنها كانت فارقت الحياة، قبل أن تهز رأسها“. هذا النزيف من الصورة الفنية، تنجح القاصة في صياغته، بلغة سهلة، كأن لغتها مرايا تعكس صورا على أعصاب الإنسان.
من يكتب قصة موته
وتكرر العنيس استنزاف الألم، في القصة ذاتها، إلى أن توصلنا إلى هضبة بارزة، متمثلة بنهاية تكون مسرحا للدهشة والغصة، فتكتب:“توقفت لبرهة كي أنظر في ساعة يدي، شيء ما لا أدرك ما هو حقا دفعني إلى ذلك، حتى لاحظت أنها تعطلت… كنت التالية“. أي أنها التالية في التعرض للقتل، فبدا هذا المشهد لمن يكتب عن قصة موته وهو في العالم غير المرئي، كتدشين موجع للحظات الأخيرة.
اختفاء الملامح
واستعادت الكاتبة الفلسطينية ذكريات اللجوء في لبنان لسنوات طويلة، بسردها تفاصيل ما يعقب الانفجارات وقتها، في قصية“الوصول إلى الليطاني“ لحظات اختفاء الملامح، وبتر الأعضاء من الجسد، وتشوه الذكريات للأبد.
كساد
كما وتعرضت للحظات كساد العاطفة بين الزوجين، وتحول المشاعر إلى جمادات، واقتصار اليوميات على مشاكل البيت، وامتعاض أحد الطرفين في الحياة الزوجية من تصرفات الآخر، في قصة ”طينة زوجتي السابقة“. بينما ساقت صناديق الذكريات للعلاقة المنتهية، وشرحت بوجع كيف تضع القدم وطأتها، لبدء علاقة جديدة، علاقة مغموسة بأشباح الماضي، في قصة:“ أتعبني دور المخلصة“.
في المجموعة القصصية“الوصول إلى الليطاني“ أجواء صامتة، شاحبة، قائمة على العزلة عن الأشياء، كافكاوية المرسى، تسترجع الأجسام الشائكة المكومة في الذاكرة، تحت خانة ذكريات. هي عملية إعادة فتح للجراح الملتئمة بالكاد، ذوات الندب، والألغام.