العزلة وأدب الأزمات
المدينة نيوز: من المألوف أن يميل المؤلف إلى العزلة عن الناس، بهدف التعمق في دواخله، والتقاط الأسرار الدفينة في الحس الإنساني.
ويعد هذا النمط المتوارث بين الشعراء والكتاب، بمثابة أحد الطقوس الأكثر حضورا في سيرة أي منهم. وحديثا، تم تمرير هذا السلوك إجباريا للكثير من المواطنين في البلاد العربية ودول العالم، كقرارات احترازية، أو علاجية، اتخذتها الدول للقضاء على فيروس كورونا الذي يتفشى بين التجمعات الإنسانية.
المعارك الصغيرة
وتبدو حالة العزلة في التراث الأدبي العالمي، ظاهرة عند كافكا الذي تركزت حياته حول عزلته ومعاركه الصغيرة مع المرأة، وفرناندو بيسوا، من قزّم من شأن نفسه، لدرجة أن رأى في هيئته الحشرة. ولمع ديستوفسكي، وأوكتافيو باز، وأبو القاسم الشابي، ومحمود درويش، وغيرهم من المبدعين على مر السنين، ممن تمسكوا بالعزلة.
الأثر الجانبي
وانعكس سلوك الشاعر المكسيكي أوكتافيو باز في شعره، من خلال الميل إلى الأشياء الجانبية، والتنقل بين المربعات الأكثر هلاكا في الطبيعة. كما يُسقط تهالك جسده أمام المناظر الطبيعية، بإظهار كم الميوعة التي تنتاب جسده، خلال مروره بنهر أو نبات ضعيف. باز ينفصل عن الحياة، ويتماهى في فلسفة جديدة، لجسده، وللصغائر من حوله، لينجو من وطأة المعرفة على كاهله، وينثر بعض الإجابات، في وجه العالم. ومما كتب:
”يستطيع جسدي أن يعرف طعم حياة ،النباتات والأنهار،إنه يشعر بانفصاله عن الأشياء، جرعة صغيرة من الصمت تكفي، وكل شيء ما زال، في مكانه الصحيح، تماماً كما جسدي في مكانه“.
ويتضح في شعره كم العراك الداخلي، والحوار الصاخب، في المناطق الأكثر ثورة في جسده. هي حرية معرفة الذات، بتفجير الحواس، وكسر النمط المتفسخ. فيقول:
”كل الأشياء تصبح جُزراً في حضرةِ حواسي، وتتقبلهم بطبيعة الحال: همهمة الصمت.
كل الأشياء في هذا الظلام، أستطيع أن أعرفها، تماماً كما أعرف أن الدم يجري في عروقي السهلُ تدفقُ المياه العظيم متخللاً الغراس،
قوت كل الأشياء كل نبتة، وكل حجر، يحيا بصمت، أسمع طعامي يغذي عروقي بكل ما يقدمه هذا السهل، بكل شيء حي الليل ليس ذا شأن“.
إدارة الذات أولا
وواضح من طريقة إدارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش لحياته، بأنه كان يميل للعزلة، فلم تدم له زيجة، كما أنه رفض منصب وزير الثقافة في السلطة الفلسطينية، لميله إلى إدارة ذاته أولا، لا إدارة حياة المجموعة من حوله. يكتب درويش:
”في العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه،
يكتب العبارة، وينظر إلى السقف. ثم
يضيف: أن تكون وحيدا، أن تكون قادرا على أن تكون وحيدا، هو تربية ذاتية.
العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب
على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي، أو ما يشبه خلوك من خارجك، وهبوطك الاضطراري في نفسك، بلا مظلة نجاة.
تجلس وحدك، كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن“.
صناعة الشخصية
ويتحدث درويش عن العملية التكتمية للعزلة، فحيثما تصنع شخصا، تكون قد عبرت به مراحل مختلفة من تفكيك وتجميع القناعات. ويكتب عن ذلك:
”العزلة مصفاة لا مرآة، ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى، ولا يتغير شيء في حركة الانتقال، من اللا فكرة إلى اللا معنى، لكن هذا العبث البريء لا يؤذي ولا يجدي.
وماذا لو كنت وحدي، العزلة هي اختيار المترف بالممكنات، هي اختيار الحر، فحين تجفف به نفسك، تقول: لو كنت غيري لانصرفت عن الورقة البيضاء، إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل، ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى، لعله ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون، لكن تنقضي الخبرة والقسوة الميتافيزيقية، وتقول: لو كنت غيري“.
انتماء
كما يتبرأ درويش من الحشد، بتعبيره الصريح عن انتمائه للعزلة، عزلة الماء عن الزيت، ومقدرة الرمي الأبعد مسافة للوعي. ويصف هذا درويش بالقول:
”فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها. العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضا قوة روحية عالية جدا. وأشعر أنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني أنه انقطاع عن الحياة والواقع والناس.. إنني أنظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن أنغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة“.
لا بد أن لكل مرحلة مبدعيها، ولكل حدث مرسى آخر، فما يرسمه الواقع لا تمر عليه أقدام الخيال، إلا صدفة، أو استكشافا إن كان ذلك عمدا، وهو ما يحيل إلى أن فترة عزلة كورونا، وقدرة الوباء على توحيد العالم أجمعه على فكرة واحدة، وإجبارية العزلة، ستدفع الأدباء والمفكرين إلى منطقة أدبية مشتركة المنشأ، مختلفة الشكل والبنيان، هذا ما ننتظره خلال السنوات القادمة، رحلة أدبية كورونية الدافع، متباعدة التأويل، والتشكيل.