توم هانكس وفن التمثيل: الإيقاع والإصغاء والإشارات المحكمة
المدينة نيوز : ذهب توم هانكس إلى هوليوود عام 1980 بحصيلة مسرحية غير هينة، حيث نقرأ في قائمة أعماله عناوين مثل، هاملت وهنري الرابع والملك جون، ومن التمثيل الدرامي على خشبة المسرح، إلى لعب الأدوار البسيطة، في أفلام البدايات ذات الطابع الكوميدي الخفيف، تمكن تدريجياً من خلق أسلوبه الفريد في التمثيل السينمائي، الذي بات مرجعاً للكثير من الممثلين في الغرب والشرق، نرى أثره على أدائهم في أفلام هوليوود وبوليوود على السواء.
والتأثر هنا لا يعني التقليد الذي يمسخ الهوية الفنية، وإنما التعلم، فالممثل المُجيد يتعلم ولا يقلد، ولا شك في أن مشاهدة أفلام توم هانكس، هي فرصة هائلة لتأمل التفاصيل الدقيقة، والتقاط الأفكار حول كيفية استخدام تقنيات التمثيل الأساسية الراسخة، وتطويرها بشكل يصل إلى حد الابتكار، أو التخلي عنها، والعمل ضدها بطريقة معاكسة أحياناً، بحيث يبدو محلقاً في الفراغ، معتمداً على قوة خفية تحميه من الضياع، وكذلك حول قدرة الممثل على إحياء الشخصية الخيالية، وإثبات حضوره كمبدع خلاق، لا مجرد لسان يلقي الكلمات المكتوبة، أو قطعة من الجماد الناطق في كادرات المخرج، وذلك لا يعني أن توم هانكس ممثل أكاديمي وتقني بحت، تتم مشاهدته لأغراض تعليمية، فإن جماهيرية هذا الفنان، وشعبيته في العالم بأكمله لا تخفى على أحد، والكثير من الشخصيات التي جسدها في أفلامه، هم أصدقاء لنا، نعرفهم بأسمائهم، ونتذكر حكاياتهم، ونحفظ بعض أقوالهم وعباراتهم القصيرة الموحية، تلك الشخصيات التي تواجه في أغلب الأحيان، نوعاً من النبذ والإقصاء بدرجات متفاوتة، ولأسباب مختلفة، ويكون على توم هانكس أن يصور بدقة متناهية، كل ما يشعر به الشخص «الفرد الوحيد»، الذي لا يشبه الآخرين، ويتعرض للتهميش، إما لأنه أجنبي في بلد غريب، أو لأنه يعاني من ضعف في القدرات الذهنية وانخفاض في مستوى الذكاء، أو بسبب ميوله العاطفية وإصابته بمرض الإيدز، أو بفعل قوة جبارة تلقي به قسراً على أرض جزيرة منعزلة، أو لأن الموت يفقده زوجته، ويكسبه صفة اجتماعية جديدة، غير مقبولة بشكل أو بآخر، حيث يشعره الجميع بأن وضعه صار مشكلة لابد لها من حل. كل هذه الأمور تفرض على الشخص الكثير من المخاوف والصراعات التي تخلق الدراما، كالخوف من المستقبل المجهول، وعدم القدرة على تغيير الحال، والنجاة بالنفس من الواقع المرفوض.
يمكن وصف أسلوب توم هانكس التمثيلي بالاعتدال والتوازن، فلا نرى تلك البساطة الفطرية، أو ذلك الأداء المتكلف المبالغ فيه، ونجد إنه يمنح الشخصية والمشهد واللحظة، الإشارات المحكمة بالقدر الملائم تماماً، وبإتقان يصيب الهدف في نفس المتلقي، ويحقق التأثير المطلوب، ونظن إنه يقوم بالكثير من الحذف، لكل ما يبدو زائداً لا لزوم له، من أجل تكثيف المشاعر وتركيزها، ولا يسعى إلى إظهار كافة مهاراته دفعة واحدة، ليثبت قدراته كممثل، وتنطلق هذه الإشارات من فهمه وإحساسه وخياله الخاص، والانعكاسات الذاتية للانطباعات الذهنية، والحركة الداخلية للمشاعر والحالات الوجدانية، والانفعال المتزن المشوق بتفاصيله، والأثر الجسماني والقول والحركة والإيماء، وتقديم الصوت النفسي للشخصية.
يمتلك توم هانكس صوتاً مسرحياً ثرياً، يميزه الرنين القوي، والتوازن في الشدة والخفوت، وأقصى درجات القوة والضعف، كما يتسم شكلاً وجسداً بالاعتدال أيضاً
ويمتلك توم هانكس صوتاً مسرحياً ثرياً، يميزه الرنين القوي، والتوازن في الشدة والخفوت، وأقصى درجات القوة والضعف، كما يتسم شكلاً وجسداً بالاعتدال أيضاً، فهو لا يمتلك الوسامة الطاغية، والجسد الجذاب اللافت، لكننا في الوقت نفسه، لا نستطيع أن ننفي عنه صفة الوسامة والجاذبية الجسمانية، بل إننا نشعر أحياناً بأنه يستطيع التحكم في هذا الأمر، وأن يتحول شكلياً بما يلائم الدور الذي يلعبه، فنراه على سبيل المثال، وسيماً بدرجة كبيرة في فيلم «فيلادلفيا» على الرغم من مرضه، لأن شخصية «أندرو بيكيت» تتطلب ذلك، وفي أفلامه تظهر قدرته العجيبة كممثل، على تعقب التحول المستمر للمشاعر، واستغلال كافة حواسه لكي يتسنى له التعبير عنها، وتجسيد الشخصيات بمثل هذه الدقة الموحية، وإظهار مشاعرها العميقة، وحالاتها الانتقالية الحادة والمفاجئة، واللمسات الإيحائية على طريقة توم هانكس، يكون لها الأثر الكبير في المتلقي، كنظرة بسيطة يلقيها على الجزيرة عند مغادرتها في فيلم «كاست أواي»، ونراه يحاكي طبيعة شخصية «فورست غامب» ويتمثل حالته بإتقان، لا عن طريق الإيماء والإلقاء وحسب، ولكن من خلال مشيته وركضه أيضاً، مع الحفاظ على وحدة الروح، ونجد أن مشاهد البكاء لدى توم هانكس قليلة إلى حد ما، كمشهد البكاء عند قبر حبيبتــه في فيـــلم «فورست غامب»، ومشــهد البكاء المرير بصوت أليم نابع من الأعماق، عندما يفقد الكرة التي ظلت تؤنسه لأربع سنوات على الجزيرة، في فيلم «كاست أواي»، وكـــان يتحدث إليها، وينظر إلى الوجه المرسوم على جسمها، ويتواصل بصرياً معه، هذا المشهد يكون له بالغ الأثر في نفس المتلقي، لأنه يدرك ما تعنيه هذه الكرة لبطل الفيــلم» تشاك نولاند».
الكثير من مشاهد توم هانكس التمثيلية، يمكن اعتبارها قطعه الفنية الخاصة، التي أبدعها بأسلوب لا يتكرر، بفضل الشكل الإيقاعي الذي يمنحه لكل شخصية، وطريقته الفذة في معالجة هذه النماذج الدرامية، فهو يعتني كثيراً بالإيقاع الداخلي للشخصية، الذي يمنحها ما يعوزها من روح وحياة، ويحدد الفروق الجوهرية والمظهرية بين الأدوار التي يلعبها، ويعيد بناء البطل درامياً، وقد أقام توم هانكس شخصية «فورست غامب» بالكامل على الإيقاع المنتظم، الذي صنع الانسجام والترابط والتناسق بين الحركة والصوت، وعبّر عن طبيعة الشخصية الفسيولوجية والسيكولوجية، من خلال التنفس، وحركة الشفاه عند التحدث، وغمضات العين، والتأثير الصوتي الإيقاعي للفظ، والمشي والركض، وإيقاع الأفكار والأحاسيس أيضاً، والإيقاع النفسي والانفعالي الذي يثير في المشاهد انتباهاً عجيباً.
ويعمل توم هانكس منذ البداية على تهيئة المشاهد، لمسايرة هذا الإيقاع البطيء، ليجد نفسه وقد توافق معه، وصار جاذباً له من أول الفيلم وحتى آخره، ورغم كل المهارات التي وظفها من أجل تجسيد شخصية «فورست غامب»، يبقى للإصغاء أهميته القصوى، حيث اعتمد عليه لإظهار كيفية استيعابه لكل شيء من حوله، وكان للإصغاء إيقاعه الخاص أيضاً، ويعد توم هانكس بشكل عام، من أقوى الممثلين الذين يجيدون فن الإصغاء، وهو يستخدمه بصورة غير تقليدية أحياناً، كما في فيلم «كاست أواي» حيث يكون وحيداً تماماً في أغلب مشاهده، ويسير على العكس من «تكنيك مايسنر» الذي يعتمد على الممثل المقابل، لكي يستمد منه ردود الفعل والأحاسيس والتجاوبات النفسية، وهذا الممثل المقابل، أو الشخص الآخر، أو المؤتمن في الدراما القديمة، لا وجود له في الفيلم، ورغم ذلك نجد توم هانكس أو تشاك نولاند، يصغي إلى الصمت أحياناً، وأصوات الطبيعة الرهيبة الغامضة، وإيقاع أمواج البحر، ويخلق لدى المشاهد الشعور بأنه يصغي إلى الكرة، التي جعل منها صديقاً متخيلاً، وفي هذه الطريقة غير السهلة ما يضفي على التمثيل سحراً وجاذبية، ولا شك في أن مشهد استماع بطل فيلم فيلادلفيا «أندرو بيكيت» إلى الآريا المفضلة لديه بصوت ماريا كالاس، بينما يقف منهكاً منهاراً، يستند إلى حامل المحاليل الطبية المتصلة بجسده، ويتشبث بالموسيقى في فترة احتضاره، وكأنها ستمنحه الحياة، هو من أروع الأمثلة التي تؤكد إتقان توم هانكس لفن الإصغاء.