ما بين التراجيديا والهزل.. تأريخ حقب الأوبئة وانعكاساتها على حياة البشر
المدينة نيوز: كان ولا يزال الأدب والثقافة والفن متلازمات مع حقب انتشار الأوبئة، التي حصدت العديد من أرواح البشر، وزلزت عرش الإنسان على الأرض، وتُعد ناقوس خطر مستمر، فمن خلاله يدوي في الوعي الإنساني، كلما غفل البشر عن ذلك الصوت الباطني، والتفت لإنجازاته الحضارية.
الثقافة الإنسانية
تناول السرد والشعر الكوارث والأوبئة التي تعصف بالإنسان في كافة الحقب، فالحواس البشرية تقدم ترجمة حية، وبشكل لا إرادي، للأحداث من حولها. ومرارًا وتكرارًا كان الوباء، وحالات الموت الجماعي، من أكثر ما يؤلم الإنسان ويستفزه لمحاكاة الطبيعة عن فاجعته.
كما تناولت الثقافة الإنسانية، كيف ضعف الإنسان أمام الأوبئة وانهارت النظم التي يدير من خلالها حياته، بفعل هذه الكائنات الدقيقة، اللامرئية بالعين المجردة، إلا أن التجربة الإنسانية المعرفية على الأرض أثبتت قدرة الإنسان التغلب على كوارث الطبيعة، واستكمال طريقه، بفضل عقله وتجاربه.
التدوين
لم يمر حدث تاريخي بشري، دون أن يدوّن الإنسان مشاعره، ورؤيته لما شاهد وعايش، وفي هذا يقول ياروسلاف سيفرت:
"بعد عاصفة برد القبور،
كان العمود مرتفعًا عاليًا،
أربعة من الشعراء القدامى اتكأوا عليه،
للكتابة على صفحات الكتب،
التي ستصير بعد حين،
الأكثر مبيعًا".
وقد يكون هدف الكتابة في تلك اللحظات، أو عنها، هو فعل انعكاسي، لتطهير النفس من حزن عميق انغرس فيها، أو يكون فعل إسناد داخلي، لشدة الأشياء المتساقطة في المرء، جراء خطى الموت المكثفة من حوله.
وتاريخيًا، تُعد الكتابة فعلا توثيقيًا هامًا، لنقل المعايشة البشرية وقت الضعف في كل مرة، والاستفادة منها، والبناء عليها؛ تجنبًا للخراب، من أن يكون أكثر شمولا وزخمًا.
أرشيف أسود
ويأتي وباء كورونا ليذكرنا بالأرشيف القاتم لهذه الهجمات ضد الإنسان، من الطاعون الانطواني 165_180م، وطاعون جينسيان 541_543، وطاعون الدبلي العظيم 1346_1353، الانفلونزا الإسبانية 1918_1920، ونقص المناعة المكتسبة (الإيدز)1981، وخلال القرن الحالي، إيبولا، انفلونزا الخنازير، وسارس.
وكان هوميروس أول من استخدم مصطلح الوباء، مع السكان الأصليين العائدين من أوديسيي، وأول من كتبها كمصطلح طبي كان أبقراط.
الطاعون ينشر حراسه
ووصف الفرنسي الجزائري ألبير كامو، هجمة الطاعون على الإنسان في رواية الغريب، متناولا أدق التفاصيل لحال الإنسان مع الوباء وقتها، حين كتب يقول: "كان الطاعون ينشر الحراس عند البوابات، ويحول السفن المتجهة إلى وهران".
ويرصد كامو من بُعد نفسي، أسئلة الإنسان، وإجاباته الذاتية، أفكاره، وضجر الحقيقة، واللحاق بالوهم، حينما كتب: "استمر الكثيرون في التأمل بأن يتلاشى الوباء قريبًا، وينجون بأسرهم، وبالتالي، لم يشعروا بأي التزام بإجراء تغيير في عاداتهم، حتى الآن، كأن الطاعون زائر غير مرحب به، ومن المقرر أن يأخذ إجابته يومًا بشكل غير متوقع، كما جاء".
ومن الواضح، إلمام كامو بتاريخ الوباء والإنسان، حينما يكتب بمثل هذا البعد، وهذه الخبرة، ولا خبرة أمام الموت، فلم يكن سلوك طاعون التيفوس الذي خرّب أثينا، أقل قسوة من هذا، كما ورد في رواية ثيوسيديس، وهكذا يفعل كورونا اليوم في الشعب الإيطالي والإسباني.
تحلل القوانين
ومن جانب السينما، خلّد جيوفاني بوكاتشينو فيلم "decameron" للحديث عن أخبث الأوبئة "الموت الأسود" في القرن 14، كما استفاد من الفيلم "تشوسر" لتقديم "كانتر بيرج تيلز" عن فلورنسا ويقول فيه:" في هذا البلاء المفجع لمدينتنا، كانت سلطة القانون النافذة، البشرية أو الإلهية، بطريقة ما، تم حلها، وسقطت في الاضمحلال، نظرًا لنقص الوزراء، أو من ينقذ السلطة ويدافع عنها، فالذين ماتوا أو مرضوا تركوا كل أتباعهم، دون أوامر، وبالتالي أصبح لكل شخص ترخيص لأن يفعل ما يرضيه".
دستور آخر
أما دانيال ديفو، فقدم في مجلة الطاعون وصفًا لما يحدث للإنسان المصاب بوباء الطاعون فكتب: "هنا يجب أن نلاحظ أن الطاعون يعمل بطريقة مختلفة عن الدساتير المختلفة، حيث الحمى العنيفة والتقيؤ والصداع الذي لا يحتمل، وآلام الظهر والهذيان، وهنالك آخرون عانوا من التورمات في الرقبة والفخذ والإبطين، وأصيب البعض بالخرس؛ كنتيجة لافتراس الحمى معنوياتهم، بالإضافة إلى حالات الإغماء والموت دون مقدمات".
تراجيديا الوباء
وكتبت نازك الملائكة عن الطاعون في مصر وقتها:
"هذا ما فعلتْ كفُّ الموت،
الموت الموت الموت،
تشكو البشريّة تشكو ما يرتكبُ الموت،
الكوليرا،
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاء،
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواء،
استيقظَ داءُ الكوليرا،
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا،
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاء،
يصرخُ مضطربًا مجنونا،
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا.
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداء،
في كوخ الفلاّحة في البيت،
لا شيءَ سوى صرَخات الموت،
الموتُ الموتُ الموت،
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموت،
الصمتُ مرير،
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبير،
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِير،
الجامعُ ماتَ مؤذّنُه،
الميّتُ من سيؤبّنُه،
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفير،
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ،
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ،
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّير،
يا شبَحَ الهيضة ما أبقيت،
لا شيءَ سوى أحزانِ الموت،
الموتُ الموتُ الموت،
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموت".
رد فعل هزلي
وتنوعت استجابات البشر لمهاجمة الأوبئة في التاريخ، ما بين التراجيديا والهزل، فمنهم من اعتقد أن الوباء عقاب إلهي، فأهمل خطى الوقاية، ولم يرحمه المرض، ومنهم من اتخذ الخطى الصحيحة للنجاة ونجا، والبعض من أعطت خطى الوقاية لديه بعضًا من الهزل.
وفي هذا يكتب ديفو: "التدابير الاحترازية غير العادية التي اتخذها رب الأسرة خلال الحجر المنزلي، الذي فرضه على نفسه، مدة خمسة أشهر ونصف، وطبّقه على عائلته المكونة من ثلاثة أبناء وزوجته وخادمتين. بعض التدابير كانت هزلية، مثل أن الرسائل التي أرسلها ساعي البريد تم تطهيرها، فجعل البواب يبخرها بالحجر والبارود، ثم يفتحها ويرشها بالخل، ثم يبخرها مرة أخرى بعطور قوية، ويحملها يزوج من القفازات، ويقرأها بمكبر زجاجي، لتجنب اللمس، وبمجرد قراءتها يتم حرقها".