"صوتك في الموسيقى الجانبية" للإيطالية كلاوديا بجينو.. ألعاب ذكاء خارج الزمن
المدينة نيوز: تُجرب الشاعرة الإيطالية كلاوديا بجينو سككا ذهنية متفاوتة مع الأشياء، وبأحاسيس مختلفة، في مجموعتها الشعرية "صوتك في الموسيقى الجانبية"، الصادرة عن دار رواشن للنشر2019، وبترجمة من الشاعر السعودي رائد الجشي.
ومن الملفت أن الشاعرة الإيطالية تلعب لعبة ذكية مع الأشياء في نصها، بأن تخرجها تارة خارج إطارها ذاته، أو إطار ذاتها، وتقلص حجمها تارة. وتداعب حدود المسافات وتغير لون المشهد أو لون الأفق تارة أخرى، بقصد وضع تعريف آخر للحدث، أي أن لا شيء يسقط من حبال التجربة لديها، قبل اختباره.
رنين الجرس
وتصنع بجينو شعرها كما كلمات على سكك ممتدة في الداخل الإنساني، وترن كجرس في مادة الإنسان، كلما تقدمت مساحة أخرى، كلما اكتسبت مُدنا أخرى، ليصنع الشعر عالمه الشاسع، جماله اللا مكرر.
فراغات للهرب
وتستغل الشاعرة الإيطالية الفراغات الموجودة في حدود الواقع؛ لتتسلل إلى المكان الآخر، اللامكان، بالأحرى، حيثما يخزن الإنسان ذكرياته، في أفق خلفي، يتقاطع فيه الوعي الإنساني مع الزمن، في محاورة ذاتية تحيل الذاكرة إلى الماضي.
وفي جملة افتتاحية للعديد من الالتقاطات المتشابكة مع ذلك الخزان الذاتي، تعترض كلاوديا الطريق إلى شِعرها فتكتب:"السقف فيلم قصير لمكان آخر". فهي كأنما أرادت التلميح إلى أن السقف لا يتوقف عن عرض المشاهِد، ولا يكف عن مداعبة وعي الإنسان. وتكتب بجينو في قصيدة "السقيفة": "في مكان آخر ثمة فيلم قصير على سقيفتي، كأنه يعرض في سينما صامتة، فراشة محاصرة في الكهرمان، إنه عقلي، وله وزن استنكار افتقار حب أبدي" وما ذلك سوى انطباعات الإنسان عن الأحداث، الصور العالقة في ذاكرته، تلك التي تحمي هوية الإنسان من النضوب.
خدوش متراكمة
وعلى طريقة "فرناندو بيسوا" في وصف لحظته، تستعيد بجينو إلغاء صفة الصوت عن الإنسان، لتقتطع لحظة صامتة من الفراغ، وتستمر في فرْد شاشة زرقاء قاتمة على طول الطريق، ذلك ما سيساعدها في إعلاء لحظة شعرية خالدة. فتكتب الشاعرة في قصيدة "بطانية النسيان": "الأذرع تطيل ذاتها، الأيدي تشتبك، الأصابع تخدش لتثقب قماش كآبة أغصان حادة ونحيلة. انظر إلى زرقة اليوم، مغطاة ببطانيات الحزن". هذا المشهد السوداوي، بطريقة ما هو تراكم الخدوش التي تترك كعلامة في أرشيف العقل.
الشِعر يَخترِق
ولا تتوانى بجينو عن تخليق التشابكات بين الواقع والخيال، كأن تدخل بالقطار السريع لخيالها، ولا يهم هنا بماذا سيرتطم، فهذه السرعة الجنونية هي بالأصل سرعة الشِعر في اختراق الإنسان، عملية تهكير وتغيير، وتمضي مقاطع الشعر على سكك تؤسسها رغبة أكيدة من الإنسان في المغادرة والوصول لمكان آخر. حيث تكتب بجينو: "عبرت كل إيطاليا بالقطار، عشت توقعات الوصول والمغادرة، وفي كل رحلة أحلم بقطارات أخرى لألحق بها، ولكن مع سكك مقاطع شعرية".
استعادة الصوت القديم
وتواصل بجينو إضفاء صفة الغرابة على الصوت بإخراجه من مساحة الزمن، وجعله في مساحات أخرى لا يطالها الإنسان دون الموسيقى، هذا التغريب الذي هو من أصالة الشعر لإنتاج التأويلات المتعددة. وهذا الخارج عن الزمن دوما لا يمكن توقعه، لا يمكن الإمساك به، أو رؤيته، لذلك يستحق أن يتم سحبه إلى المركز، مجازا، إلى مركز الشعر. وتكتب الشاعرة على طريقتها في قصيدة "صوتك في الموسيقى الجانبية": "سمعت نُسخا منك في موسيقى خارج الزمن، وعادت لي الذكريات في صوت الغونغ، القادم من العصور البائدة، توقفت عند صدى حرير المعادن، وعرفت صوتك في الموسيقى الجانبية".
مزحة من صنع العزلة
وتحلق بجينو مع الشعور البشري، بمزيد من الخطا التأملية خارج السرب، حينما ترى الزمن مرة أخرى ومن مكان آخر من إطاره الخارجي، في قصيدة "جاك لم يعد موجودا"، تكتب كلاوديا: "جاك لم يعد موجودا أصبح مشوها خارج الزمن، .. تابعت تفاصيل غير مهمة، كلحيته، ولون جواربه، والشمعة فوق الكعكة بالصورة الفوتوغرافية، لتقلص المسافة التي حلمت بها". وتكمل: "جاك كان مجرد مزحة صنعتها عزلتها، استنساخ وهم، نتيجة خيال".