الأدب الدستوبي العربي والتطرف الفكري
المدينة نيوز: تتباين وجهات النظر بين الكُتّاب في تقييم المشهد الثقافي والاجتماعي العربي، في ظل تعاقب سريع للأحداث في المنطقة العربية، خلال العقود الأخيرة، والتي كان من آخرها الثورات ضد الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول العربية.
ومنذ ذلك انخرط الكثير من المؤلفين في المضمار الثوري، وقاموا بإنتاج أعمال أدبية من أشعار وقصص وروايات، بينما فضل البعض الانتظار لتقييم التجربة بعد اكتمال نضجها.
الخيبة
وتُخلّق الأزمات التي تمر بها المجتمعات بشكل اعتيادي، توجهات ثقافية، ينبثق عنها تجمعات، أو مدراس أدبية وفنية، تبعا لأثر الواقع الاجتماعي.
ولأن الخيبة كانت هي عنوان المرحلة الفائتة في العديد من البلاد العربية؛ انبرى العديد من المؤلفين والفنانين العرب في إنشاء محتوى "دستوبي" لأعمالهم، وهو عبارة عن حوار فكري يقدم رؤية سوداوية للمستقبل، ويكشف عن حقيقة مجتمع مسحوق، وعن فجوة شاسعة في الطبقات المعيشية بين الحاكم والمحكوم.
ويأتي ظهور الأدب الدستوبي كإقرار من المثقفين، بسقوط المجتمع، وهو بمثابة تشييع إنذار صارخ للجمهور، باقتراب انهيار المنطومة الثقافية والأخلاقية المتبناة.
التشاؤمية في العالم
وكان البدء في انتشار الأدب الدستوبي العالمي مع الثورة الصناعية التي اجتاحت العالم، حيث سيطرت الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء من المنتفعين من النظام الحاكم، وطبقة العمال الكادحين، فانزوى الكُتّاب الغرب وقتها إلى التشاؤمية، للتعبير عن سخطهم مما يحدث في العالم.
وظهرت وقتئذ رواية "العقب الحديدية" للأمريكي "جاك لندن". ويعد الروسي "يافغيني زامياتين" أبا روحيا للأدب الدستوبي، بما أنتجه في رواية"نحن" فكان ساخطا، متمردا على ما حدث في ثورة روسيا. وجاء من بعده "جورج أورويل" بروايته الشهيرة "1984"واتخذت الطابع السياسي، ولمع بعدها "ألدولف هكسلي" في رواية "عالم جديد شجاع".
روايات البؤس
وفي العصر الحديث، صارت الدستوبيا وجهة العديد من الكتاب العرب، ونالت الاهتمام النقدي والجماهيري، على نطاق واسع. حيث كتبت عنها المقالات النقدية والقراءات الفنية، وتم تداول الاقتباسات المكثفة منها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان ملفتا، تأهل رواية "عطارد" للروائي المصري محمد ربيع إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية"بوكر" عام 2016، وهي رواية تتحدث عن كارثة تنتظر المجتمع العربي في 2025.
كما وقدم الروائي الجزائري واسيني الأعرج تصورا مخيفا للمجتمع العربي بعد 50 عاما، في روايته "2084 حكاية العربي الأخير"، ويتنبأ بمآل العرب بعد عدة عقود، كنتيجة لخروجهم من التاريخ، والتفكك والضياع الذي تفشى في التركيبة العربية. وفي إحدى المقابلات توقع الشاعر العربي السوري أدونيس، بأن العرق العربي إلى انحسار وزوال، في حال بقي هذا النمط في تناول تغيرات الحياة من حولنا.
وفي رواية"روائي المدينة الأول" يقدم المصري عمر حاذق، تصورا فانتازيا دستوبيا لما بعد الموت، داعيا من خلالها إلى إعادة تفكيك الواقع، وإزالة كافة السلطات القديمة في المجتمع، بما فيها الأبوية.
رواية ممنوعة
وفي رواية"الانحناء على جثة عمان" قدم الروائي الأردني أحمد الزعتري، نظرة مستقبيلة لمدينة عمان ملطخة بالدماء، ومغطاة بالسواد. وقد منع تداول الرواية في الأردن، بحجة الإساءة للمجتمع.
عالم موازٍ
ومع امتداد أدب الدستوبيا، يمكن القول إن عالما موازيا، في الخيال، قد مكن قواعده في عقول الكثير من المفكرين والشباب العربي، في ظل المظاهر المخيبة للواقع الاجتماعي والاقتصادي. هذا العالم الموازي بمثابة عدسة مكبرة يرى من خلالها الشباب طبيعة العمل السياسي، والواقع الاجتماعي في المنطقة العربية، لكن هل يمثل هذا التصور أي خطورة على طبيعة العلاقات الاجتماعية؟ هل يدفع نحول التطرف الثقافي والسياسي في تقييم الواقع؟
الخيال يتفوق
هنالك دراسة أجريت في الولايات المتحدة حديثا، تفيد بأن تقييمات عشوائية لمجموعات من الشباب وطلاب الجامعات، قد أظهرت فارقا بنسبة 8% لصالح الخيال الدستوبي وأدب البؤس، من حيث التأثير على أحكام وقناعات الشباب، عنه في رؤية الحدث الواقعي. فقد تعرضت المجموعات لتأثير روايات خيالية تتحدث بطريقة بائسة، عن قصص قد تكون من الواقع أصلا، وتعرضت نفس المجموعات لاختبار تأثير آخر، حين عرض عليهم نشرة أخبار لواقعة بائسة، لكنها قدمت إليهم بشكل تقليدي. ذلك الفارق في الأثر لربما يعود لطريقة السرد، ومهارة محاكاة الخيال، أو لسبب آخر!
تبرير التطرف
الغريب أن المجموعات التي تعرضت للأدب الدستوبي، بررت الأعمال المتطرفة، والاحتجاج المسلح، من أجل تحقيق غاية ما. وهذا يُظهر الأثر العميق الذي يحققه الأدب الدستوبي في عقل الشباب، وكم العنف الذي قد يخزنه داخلهم، ربما يشكل بعد ذلك رؤية متطرفة للواقع من حولهم.
على الرغم من كونها حقيقة، لم تستطع الصورة الواقعية أن تقنع العينات بما يحدث، بقدر ما استطاع الخيال. هذا يفيدنا بأن الإنسان يميل إلى استخلاص أفكاره الاجتماعية من عالم خيالي، أكثر من التقارير القائمة على الحقيقة. من الممكن أن يكون ذلك، نتيجة لفقدان الثقة في الواقع وأدواته، وهروبا إلى عالم خيالي مشبع بالعمق، وممتلئ بالحوار الذاتي.