فيلم "The roads not taken" للإنجليزية سالي بوتر.. مهارة تحريك الأماكن
المدينة نيوز: تستفز المخرجة الإنجليزية "سالي بوتر" وعي المشاهد، بشخصية متفرعة في ثلاثة اتجاهات، تحتاج لتحدٍ عقلي لاكتشافها، في فيلم "The roads not taken" المنتج في مارس 2020.
وتتلخص قصة الفيلم في صراع كاتب يقع في فخ الخرف المبكر، ويعيش في عزلة داخلية، تتسبب في فقدانه القدرة على الكلام بالكاد، حتى حينما يتحدث، فإنه يطلق كلمات أشبه بالألغاز. شخصية الكاتب تلك التي يجسدها "خافيير بارديم" بلقب "ليو" تسير بشكل مشتت طوال أحداث الفيلم، بحيث لا يمكن فهم تفاصيلها، إلا بعد مرحلة متأخرة من التسلسل الزمني للقصة.
ثلاث شخصيات معلقة بخيط وحيد
وتفيد كوامن الشخصية بأن "ليو" يعيش في مدار ثلاث شخصيات ظاهرا، إلا أن الكاتبة والمخرجة "سالي بوتر" قد علقت هذه الوجوه المختلفة للشخصية، في خيط وحيد، لكاتب تسحبه الذكريات للماضي.
مشنقة شعورية
إحدى وجوه "ليو" تلتقطها الكاميرا مع عشيقته القديمة "دولوريس" وتجسدها "سلمى حايك" ويكون الفراق بينهما بسبب طفلهما الذي اختاره الموت في حادث أليم. وتكون غصة الكاتب في ذاكرته، ليس على فقد ابنه فحسب، بل لأنه يعتبر نفسه السبب في تلك الحادثة، فلم يذهب يومها لنقل ابنه للمدرسة، فكان الحادث مشنقة شعورية للأب من بعدها.
أرجحة القارب
أما الوجه الثاني لشخصية "ليو" فهو من وجه الكاتب المنغرس في عزلته، ويحاول أن يجد نهاية مقنعة لروايته، فيذهب بعيدا في البحر، مكتفيا بصوت أرجحة القارب وسط الماء، عله يصطاد الفكرة الأخيرة في الرواية. كما وخلال تجول الكاميرا للكشف عن حواف الشخصية، فإن تفصيلات جديدة تدخل إلى الحيز، فنجد أن الكاتب "ليو" يسترجع من ذاكرته لحظات تعلق بفتاة مراهقة، كلما نظر إليها، أحيت داخله مشاعر تعلق بابنته التي لربما كانت في الماضي، ولربما تأتي في المستقبل.
جسد ممدد
وعن الوجه الثالث لشخصية ليو، فهو ما وصل إليه في الواقع من جسد ممدد أغلب الوقت، ممتنع عن الكلام، ويصارع ذاكرة تالفة، في غرفة منعزلة، مدخلها ممر طويل، يشبه سكة المترو الذي يمر قطاره كل ساعات من الجهة المقابلة للمنزل، كرمز للمحطات التي يتنقل بينها "ليو". وتبدو دلالة تلاحق المحطات، هي فرصة للكاتب الخرِف، لإعادة ترتيب ذاكرة تبدو من الداخل، مثل كأس مكسور، يود أحدهم تجميعه.
سقوط الجَمَل
ولم تكن بطولة "خافيير بارديم" مُطلَقة في الفيلم، فرافقته الفنانة " إيلي فانينغ" التي شغلت دور "مولي" ابنته، في حاضر الأحداث. الابنة التي ترفض الاستسلام لواقع والدها، وتضحي بعملها، من أجل الاعتناء به، فلم تصل إليها القناعة بعد، بأن الجَمَل قد خارت قدماه، وهذه قد تكون جلسته المستدامة.
"مولي" التي تعطي نموذجا هاما في كيفية الاعتناء بالوالدين وقت الأزمات، فلم تكن مبالية لأي سوء قد يلم بها من أفعال الأب غير المعقولة، غير المساعدة في التنقل والعرض على الأطباء، وتنظيف ثيابه بعد التبول عليها، كتفهّم مرْضي لطبيعة حالة أبيها الاستثنائية.
تحزيم ونقل
فكرة الفيلم تقوم على تحزيم الأمكنة وحملها مع الذهن، فالإنسان في الوضع الطبيعي يغادر المكان، ولا يدري ماذا سيحدث بعد المغادرة، كم سيتبقى منه في المكان، وكم سيحمل من المكان معه. عملية تحريك الأماكن هذه هي سِحر الفيلم.
تلك هي الطرق التي لم يسلكها "ليو"، في الواقع، أو لربما تمنى ذلك، صارت الثقوب المهلكة التي يتسرب منها الماء في قاع السفينة، ليكون المصير الحتمي لهذه العزلة، هو الغرق.
تقاطعات
وما يثير التوتر في اكتشاف غموض الشخصية المتفرعة، هي تلك التقاطعات بين وجوه الشخصية، فتتكرر صدمة "ليو" في الواقع، وينتفض جسده، كردّة فعل لحدث في أحد الوجهين في داخله، هذا التقاطع، هو حيلة ذكية من الكاتبة والمخرجة "بوتر" لإشعارنا بمقدرة الإنسان على نقل الأمكنة، من الماضي، وتفسيرها أكثر في لحظة يكون فيها الوعي أكثر شعورا بها.
فك اللغز
ووسط الانشغال بحل اللغز، تظهر هدية المخرج، بأن يخبرنا من خلال "ريتا" طليقة "ليو"، ولعبت دورها "لورا ليني" التي تحدثت لابنتها عن "دولوريس" بأنها كانت حبه الأول، في ريف المكسيك، قبل هجرته لأمريكا. وتظهر حقيقة ثانية، بأن "ليو" سقط مسبقا في مياه البحر في اليونان، وتحدث إلى فتاة هناك، حول حنينه لرؤية ابنته التي صارت بنفس عمرها.
تحد
سيناريو الفيلم، ليس من السهل المرور عليه، وفهمه، دون تعمق. منطقة تحليلية ممتعة وفيها من الغموض ما يكفي للتحفيز الكامل. وتأتي السلسلة البطيئة للفيلم، التي تتحرك بأصوات ترن في العقل، لتثير الفضول أكثر فأكثر، لمعرفة سر هذا الغموض، لتؤكد على مقدرة مقنعة للمخرجة سالي بوتر، وبدت بأنها عملت على إظهار التحدي الذهني للمشاهد طيلة سير الأحداث، وكانت خاتمة الأحداث بنطق الكاتب الخرِف، لاسم ابنته "مولي" كبعد رمزي لبدء عودته للواقع.
ومن خلال هذا الفيلم يظهر "بارديم" كم الاختلافات الواضحة بين الشخصيات الثلاث التي تقمصها، فوضح تعب طاقم المكياج لصنع الفارق الشكلي، و جهد "بارديم" أيضا لإبراز الفوارق في التفاصيل الداخلية للشخصيات الثلاث، ومحاولاته الجادة لطمس التشققات في ذاكرة ليو.
وأيضا تقدم "فانينغ" دورا تعبيريا مميزا، من حيث الحضور، والرشاقة في تجسيد الشخصية. أما "سلمى حايك" فدورها لم يمتلك القدرة على إضاءة شمعة واحدة، من بين تلك الشموع التي حاولت إضاءتها على قبر الطفل المفقود.