المجموعة الشعرية "تحميض" للسعودي محمد خضر... لحظات تأملية عكس الزمن
المدينة نيوز: يقدم الشاعر السعودي محمد خضر، فلسفة شعرية نقية حول الإنسان وماضيه عبر تأمل الصور القديمة، في مجموعته الشعرية "تحميض" الصادرة عن دار رواشن للنشر 2018.
ويركز الشاعر السعودي على ارتباط المادة بالصورة، من حيث العناصر، والروابط بينها، التي تتكلل جميعا لتصنع محتوى يدوم رغم تعرية الزمن.
ويشتبك خضر مع المحتوى الجمالي في الصورة، مداهما الثغرات، والتراكيب التي تعطي قيمة فنية.
ومؤكدا على أن الصورة في الفلسفة مقابلة للمادة، يستعيد خضر المكونات الغائرة داخل الصور، ليصنع منها فلسفته الخاصة، تردد نظرته الخاصة فيزيائيا، ليثبت أن النظرة المقابلة للصورة، هي جزء لا يتجزء منها، هي الإنزيم الذي يفعل مادتها.
خشبة الحياة
وفي افتتاحية مجموعته، يلقي خضر نظرة شمولية على العالم المحفوظ من الماضي داخل كتلة صغيرة من الأوراق، وقطع النايلون، ويمسك بيده عصارة مرحلة من الزمن، تطفو رغم غرق الكثير من الأشياء. ففي قصيدة "الألبوم"، يرصد الشاعر السعودي، كيف يهرب المرء من غموض الواقع، ليتعلق بالشيء الواضح، حتى لو كان كتلة صغيرة في غرفة نائية عن العالم، فإنه خشبة الحياة عندئذ. يكتب خضر:
"مرت أعوام بتفاصيلها الدقيقة،
بحكاياتها المحفوظة، تماما بجودة عالية،
وبرغم الخدوش التي أصابت بعضها،
إلا أنها واضحة تماما،
واضحة تلك الأسرار العميقة في الملامح،
واضحة تلك الأحزان الأولى من لمعة العدسة في العين،
واضحة تلك الابتسامات ذات العمر القصير جدا،
العمر الذي يمر بين الإصبع و زر الكاميرا".
وهو في نصه يحلل كيف تتحدى الصورة حركة الزمن، هذه الهيئة الثابتة، يمكن اعتبارها مشية في الاتجاه العكسي، فبينما الزمن لا يتوقف عن المضي للأمام، ترجع الصورة بالعين للماضي أكثر وأكثر.
وعلى الرغم من المحاولة المستمرة لإذابتها، فإنه يفشل في ذلك، مهما انتصر في جولات التعرية المستمرة ، فتلك الملامح والنظرات والضحكات داخل إطار الصورة، تبقى تطل من خلف المشهد الضبابي، لتصنع مشهدا واضحا، فيه من الخصوصية، ما يحكي عن لحظة من الحياة، خلف زر الكاميرا.
حتى ملابس أولئك الظاهرين في صدفة في المشهد، تبقى موثقة لتاريخ ما، كما قال هانسلك:"الصورة تاريخ".
صندوق
ويفارق خضر، بين فشل الإنسان في حفظ ملامحه في الواقع، مع ديمومة الوقت في الزحف، وكيف أن هذه الصورة الصغيرة تصنع ذلك. هذه اللحظات التي تم تجميدها في الألبوم هي الصندوق، الذي لا تنطلق دونه الطائرة.
لحظة وخز
وعن قصدية الصورة، يرى خضر بأن المرء فيما يحاول إيقاف الزمن للحظة أمام الكاميرا، هو بذلك، يبحث عن لحظة وخز مستقبلية، لحظة افتنان، ربما له، أو لغيره.
وينظر "إيمت جوين" إلى ذلك بخصوصية، حينما يعزو تلك اللحظة لشيء خفي يحتفظ به لنفسه، فيكتب:" المقصود من صوري أن تمثل شيئا ما، أنت لا تراه".
لحظة السعادة المطلقة
ويعبر خضر عن الحسرة التي تعتري الإنسان، خلال جولته مع عناصر الصورة، في نص"صورة جماعية".
فكما تكون الصورة الجماعية هي لحظة السعادة المطلقة لدى المرء، بحيث يرى كل شيء بوضوح، فإن بدء ظهور الغبش، في صورة قد تلتقط بعد عام، لا يحيله خضر لضعف النظر، أو لاهتزاز يد المصور أثناء التصوير، إنما، لأن شخصا ما غادر هذا الكادر في الصورة الجديدة. هذه الرجفة الداخلية، المصحوبة بنزيف الدمع في العين، هي مطابقة تماما، لصورة أصابها الغبش، لارتجاج يد المصور وقت التقاطها.
يكتب الشاعر السعودي:
"أولئك الذين لم يظهروا في الصورة الحديثة،
الذين رحلوا وبقيت أمكنتهم،
مثل اهتزاز في يد المصور، كل عام،
دون الحاجة إلى كثير من الكلام".
ويلحظ خضر حالة المحو التي تطرأ كتحديث على العناصر في الصورة، لتحل محلها إما فراغات، أو عناصر أخرى، وأمام هذه الصيرورة، تنقل العين للوعي معطيات أخرى للواقع.
حياد
وعلى النقيض من لحظات الانغماس السابقة، يترك خضر المشهد كاملا، في تخلٍ واضح عن كافة الجزئيات في الكادر، وينفي، ربما لتعبه من كل التأويلات، صلته بمادة الصورة برمتها، واقفا على الحياد، ويكتب في نص"قصة مصورة":
"لم أكن الذئب ولا القطيع،
ولا الرجل الذي يدعي وجود الذئب،
ولا السواعد المغفلة التي هبت لنجدته،
خرجت من الحكاية مبكرا".
شخص شبحي
أما في حال الحمولة الزائدة، فإن المرء يبحث عن هدر كل ثقله الداخلي في الفراغ، أو في وعي، يحيل ذلك إلى خامات تستعيد الحياة. يكتب خضر في نص "نيجاتيف تقريبا":
"شخص كأنما مرآة،
شخص يجيد الظهور كضيف شرف في قصصك الحزينة، شخص كأنما لا أحد، هو كل ما تحتاجه الآن".
هي نفسها الهيئة في البحث، التي استخدمها فرناندو بيسوا، ليلقي بحمولة حزنه الحارقة، بين يدي شخص مجهول، لا يحاور، ولا يعاتب، فقط يتلقى الحزن، كأنه نيجاتيف في حياة الشخص الأول.
صور متحركة
ويخرج خضر بحواسه عن إطار الصورة، بينما يتأمل صوره القديمة، وتصبح كافة الاحتمالات المتواجدة، تحمل قدرات صوتية، وحركية، مثل "Animation" لحظي. وبدلا من أن يكون الشق في الصورة القديمة، ينتقل إلى جسد الناظر. يكتب خضر عن ذلك في نص "صورة الحواس":
"يصغي لها،
الأصوات البعيدة،
وهي تستعيد الضحكات، البالونات، المخاوف، ذاكرة العطر الأولى، دوي الأحزان الصغيرة،
يصغي، صوت الموسيقى، التي كانت تنبعث من نافذة قريبة كل يوم،
حتى تلاشى صوتها الذي لوّن جزءا من الملامح، من الجدران، من أوجه العابرين في الحارة،
يصغي وهو يدرك تماما،
أنها ليست مجرد صورة،
أن شيئا ما، دفينًا في شقوق الخدش، الذي اعتراها جراء الزمن والإهمال".
"تحميض"مجموعة شعرية دافئة، تتركب الصور فيها كأنما نبض أرنب تحت الكف اليد، ومحملة بدلالات رمزية موغلة في الحس الإنساني، وملتقطة للحظات متشابكة بين جميع البشر، تدلل على ذكاء هذا الشاعر، ونجح في تشكيل هذا كله، بلغة منمقة، وقدرات أسلوبية جعلت من نصوصه، لحظات تأمل عميقة.