حسام الدين مصطفى.. عن العناية السينمائية بالروايات
المدينة نيوز: تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الخامس من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد المخرج السينمائي المصري حسام الدين مصطفى (1926 - 2000).
كلما تعلّق الأمر باقتباس رواية في السينما، يوجد خياران؛ يتمثّل الأول في محاكاة النص وصياغته سينمائياً بنفس أسماء الشخصيات ومعالم الإطارين المكاني والزماني (كما هو الحال مع السينما الأميركية حين تقتبس روائع الأدب الإنكليزي أو الفرنسي أو الروسي). أما الخيار الثاني فيتعلّق بأخذ الحبكة وحدها دون بقية العناصر وزراعتها في بيئة جديدة بأسماء وفضاءات مغايرة لتلك التي ظهرت في النصّ الأصلي، وهنا يمكن ذكر نموذج السينما المصرية التي اقتبست الكثير من الروايات العالمية لكنها ذوّبت حبكاتها في سياقات محلية.
عند الحديث عن اقتباس الرواية في السينما المصرية، تحضر تجربة المخرج حسام الدين مصطفى، وهو الذي اشتغل على مدوّنتين بارزتين في الفن الروائي؛ أعمال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي والمصري نجيب محفوظ. وبدا في كلّ منهما جريئاً في صياغة أفلامه من عناصر هذه الرواية أو تلك، وكانت تلك الجرأة سبباً في نجاحه حيث أخفق آخرون.
من نصوص صاحب رواية "الأبله"، اقتبس مصطفى أفلام: "الإخوة الأعداء" (1974) عن "الإخوة كارامازوف"، و"الشياطين" (1977) عن الرواية التي تحمل العنوان نفسه، و"سونيا والمجنون" (1977) عن "الجريمة والعقاب". وقد طَبع هذه الأفلام فهم عميق للروح الدويستوفسكية للنصوص وصولاً إلى زرعها في نسيج الثقافة العربية، وأن المُشاهد الذي لا يعرف ما حدث في الرواية قلّما ينتبه بأنه أمام حكاية روسية الأصل.
بدا جريئاً في صياغة أفلامه من عناصر هذه الرواية أو تلك
إضافة إلى توفيره العناصر البصرية التي تخدم "عملية زرع" هذه الروايات في بيئة عربية، تكمن فرادة مصطفى في حفاظه على التركيبات المعقّدة والعميقة لشخصياتٍ مثل الأب كارامازوف (القرماني في فيلمه بأداء يحيى شاهين) أو ابنه إيفان (شوقي في "الإخوة الأعداء" بأداء نور الشريف)، وبالخصوص شخصية راسكولنيكوف من رواية "الجريمة والعقاب" والتي زُرعت في سياق مصر الأربعينيات فالتحمت بنسيجها وذابت في شخصية مختار (أداء محمود ياسين)، وفيها حافظ مصطفى على المعادلة الدقيقة بين صراع الشخصية مع واقعها وصراعها مع نفسها، ونجح في إضاءة زوايا جديدة من هذه الشخصية الفريدة، وهو ما خدمه بكادرات عالية الدلالة.
أما من نجيب محفوظ، فقد اقتبس مصطفى رواية "الشحاذ" في عمله "الشحاذ" (1973)، واحتفظ بنفس عناوين روايات "السمان والخريف" (1967)، و"الطريق" (1964)، و"الحرافيش" (1986) وإن كانت الأخيرة غير مطابقة لعمل نجيب محفوظ فقد اتخذ من أحد فصولها لا غير حبكة لفيلمه، ورغم ذلك حافظ على روح الرواية في مجملها.
هناك رأي سائد بأن روايات محفوظ قد ظُلمت كلّما ذهبت للسينما، وهو رأي صائب إلى حدّ ما، وإن كان من الجدير الانتباه إلى أن عناصر بناء المادة الروائية تختلف عن لغة السينما، ولم يكن هدف السينما أن تغني عن قراءة الرواية. انتُقد مصطفى لدى اشتغاله على رواية "الشحّاذ"، فبعد أن كانت الحياة النفسية لبطلها عمر الحمزاوي (أداء محمود مرسي في الفيلم) بؤرة العمل، اختار المخرج المصري تطوير الإشارات السياسية التي كانت أشبه بومضات في نص الرواية وبناء سياق أشمل من خلالها. أما تلك الجدالات الذاتية - ذات النبرة الفلسفية والصوفية - للبطل فلم يكن من الممكن نقلها بشكل حرفي من الرواية إلى العمل السينمائي، ومن الفصحى إلى العامية. لكن يحسب للفيلم أنه طوّر عدداً من عناصر الرواية، فمثلاً نجد لدى مصطفى اعتناء ببعض الشخصيات التي لم يعتن بها محفوظ كفاية، لتبدو شخصيات مثل عثمان (أداء أحمد مظهر) أو بثينة (أداء نيللي) أكثر نضجاً في الفيلم منه في النص.
لا يمكن اختزال مصطفى في أعماله المقتبسة من روايات دوستويفسكي ومحفوظ، فقد حقّقت أفلام أخرى نجاحات لافتة، أبرزها فيلم "درب الهوى" (1983)، و"غابة من السيقان" (1974)، و"الرصاصة لا تزال في جيبي" (1974)، و"الباطنية" (1980)، و"الجاسوسة حكمت فهمي" (1994). كما اخترقت مسيرته موجة من الأفلام الخفيفة، من كوميديا وأفلام حركة، خصوصاً في السبعينيات.
هناك وجه آخر من مسيرة مصطفى برز في العقد الأخير من حياته، وفيه انسحب تدريجياً من السينما متجهاً إلى التلفزيون مقدّماً بالخصوص أعمالاً دينية أبرزها: "أبو حنيفة النعمان" (1997)، و"عصر الأئمة" (1998)، و"نسر الشرق" (1999). ورغم بساطة الديكورات والأزياء مقارنة بمسلسلات تاريخية عربية أنتجت لاحقاً فإن أعمال مصطفى تميّزت بالعمق وحسن تمرير المعرفة التاريخية خصوصاً عبر البناء المتين للشخصيات، والإدارة المتقفة للممثلين الذين يؤدّونها.