بلدية غزة وأكشاكها! ما لها وما عليها؟!
هاجت الدنيا وماجت في مدينة غزة منذ إعلان البلدية عن مشروع إقامة الأكشاك على شاطئ البحر ضمن حدود نفوذها لتحل محل الباعة العشوائيين المنتشرين على الشاطئ بعرباتهم وبضاعتهم، وتلزيم هذه الأكشاك بمبلغ 2500دولار في السنة للكشك الواحد! وانفجرت شبكات التواصل الاجتماعي بالمنشورات والمقالات والتغريدات المنددة بهذا المشروع متهمةً البلدية بالسعي للتربح على حساب لقمة عيش الغلابة الذين يُلقِّطون رزقهم من بيع بعض أكواز الذرة المشوية أو العصير أو الشاي أو القهوة وما إلى ذلك من احتياجات المصطافين على الشاطئ!!
وصلتني على مدار اليومين الماضيين عشرات بل مئات المراسلات والمكالمات تستوضح رأيي بالموضوع، وأنا وبكل أمانة وتجرد بعيداً عن العواطف والمحاباة أقول في هذ الموضوع ما يلي:
أولاً/ من حق أي بلدية في العالم أن تسعى لتطوير مواردها المالية وزيادة مدخولاتها وإيراداتها حتى تتمكن من القيام بالأعباء الملقاة علي عاتفتها، خصوصا دفع رواتب موظفيها، وتغطية النفقات التشغيلية لمرافقها وإدارتها وأقسامها المتعددة. بالنسبة لبلدية غزه فان الأمر يعتبر أكثر إلحاحاً لأنها تعاني من ظروف ومشاكل مالية صعبة ومعقدة حالت دون قدرتها على دفع أكثر من 40 في المائة من فاتورة الرواتب الشهرية لموظفيها! وعليها الكثير والكثير من الالتزامات والديون التي تحتاج إلى استثمار جوهري لكل موارد البلدية قبل ان تتسبب هذه الأزمة المالية بانهيار هذه المؤسسة الكبيرة التي تجسد تاريخ غزة الحديث والمعاصر.
ثانياً/ على الرغم من أحقية البلدية في أقامة مشاريع استثمارية لرفع مستوى مدخولاتها وتطوير مواردها للإسهام في معالجه مشاكلها المالية، إلا إنه يجب عليها وضع الكثير من المعايير والضوابط قبل أن تشرع في تنفيذ أي مشروع من هذه المشاريع! وفي مقدمه هذه المعايير والضوابط وجود اجابات واضحة وصحيحة ودقيقة حول مدى ملائمة تنفيذ هذا المشروع أو ذاك في ظل الظروف المعاشة؟! وهل المردود الاقتصادي والمادي للمشروع سيسهم في تطوير ودعم خزينة البلدية بشكل ملموس؟! وما هي النتائج السلبية التي سيترتب عليها تنفيذ المشروع على المدينة، وعلى الناس، وعلى الوضع العام؟!! لأن تنفيذ أي مشروع بمنأى عن وجود إجابات لهذه الضوابط والمعايير يعتبر خطأً جسيماً سيؤدي إلى نتائج عكسية تماماً حيث أنه ربما سيسهم في حل جزء بسيط من مشاكل البلدية المالية لكنة سيفاقم عشرات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الأخرى!!
ثالثاً/ بالنسبة لموضوع الأكشاك المزمع إقامتها، فان البلدية قررت أقامه 102 كشك في منطقة نفوذها على الشاطئ الممتد من منطقة الشاليهات غرباً إلي ما بعد النادي البحري تقريبا، وقررت استيفاء مبلغ 2500 دولار أمريكي ما يعادل 8500 شيكل تقريباً سنوياً مقابل منح الشخص الذي سيدفع هذا المبلغ حق استغلال هذا الكشك ببيع بعض المرطبات والمشروبات الساخنة وأكواز الذرة وما إلى ذلك!! وفي الوقت ذاته تقوم البلدية بمنع جميع الباعة الجائلين على الكورنيش بالتواجد نهائياً لتهيئة الفرصة لملتزمي الأكشاك بالتربح والعمل!! أي مشروع إقامة الأكشاك سيفتح المجال لعدد 102 شخص للعمل وسيؤدي إلى قطع أرزاق 3000 بائع جائل على الأقل يقتتاتون ويسترزقون من وراء الشواكل البسيطة التي يجنونها من وراء تواجدهم على الكورنيش وعلى الشاطيء!! الخلاصة في هذه النقطة أن المشروع سيؤدي إلى ضياع أرزاق أكثر من ثلاثة ألاف شخص يعيلون 20 ألف شخص من الأطفال والنساء!!
رابعاً/ المشروع حسب وجهة نظري جيد من الناحية الحضرية والمدنية، وهو موجود في جميع مدن العالم الساحلية التي لديها كورنيش على البحر، ولكن السؤال هل توقيت تنفيذ المشروع في هذه الظروف العصيبة التي لا تخفى على أحد ملائم لتنفيذه؟! وهل سيسهم في حل أزمة البلدية المالية العاصفة ولو نسبياً؟!! لا يخفى على أحد أن الظروف الصعبة التي يعيشها قطاع غزه المحاصر منذ 13 سنه ونسبة البطالة المستشرية فيه تعتبر من أسوأ الظروف التي مرَّ بها القطاع في تاريخه المعاصر، لذلك فانا اعتقد أن توقيت إقامة هذا المشروع المطلوب للمدينة لو كانت في أوضاع طبيعية عاديه! أنا أؤكد أن هذا التوقيت خاطئ جداً لأنه سيؤدي حتماً وقولاً واحداً إلى قطع أرزاق ألاف الأشخاص يعيلون ألاف الأسر والعوائل!! ومن هذا المنطلق أؤكد بأنه كان يجب على البلدية التريث والانتظار حتى تنقشع على الأقل جائحة كورونا التي زادت الطين بله وأودت بالفئة المتبقية من العمال إلى ناصية الشارع، فزادت الأوضاع صعوبة في جميع أنحاء القطاع دون استثناء!!
خامساً/ قلنا إذن أن توقيت تنفيذ هذا المشروع غير مناسب وكان يجب الانتظار إلي وقت أخر تكون فيه الظروف أكثر ملائمة!! ودعني اذكر أنه في مطلع التسعينيات من القرن الماضي عندما تسلم المرحوم بإذن الله عون الشوا(أبو السعدي) رئاسة البلدية هو والمجلس البلدي بعد قيام السلطة الوطنية، كانت جميع الميادين والساحات والأرصفة تعج بالباعة الجائلين والبسطات، وهذا من مخلفات الانتفاضة وتبعاتها في ظل غياب النظام والقانون أثنائها! وكان هذا التغول للبسطات في كل مكان يمثل شكلاً وصورة غير حضاريه بالمرة، فقرر المجلس البلدي حل المشكلة، فقام قبل أن يزيل البسطات بإقامة سوق بسطات شعبي في منطقه محطة السكة الحديد في حي الشجاعية!! ما قصدته أن البلدية تفهمت واستوعبت إزالة البسطات ستتولد عنه مشكلة كبيرة للمئات، فقامت بإيجاد الحل قبل ظهور المشكلة! وعاد الى المدينة شكلها الحضاري الذي غُيّب بسبب تغول البسطات في كل مكان بالمدينة!!
سادساً/ قلنا إذن أن البلدية كان يجب عليها إن أصرت على تنفيذ مشروع الأكشاك في هذا الوقت، أن تجد البدائل الملائمة للذين سيفقدون مصدر رزقهم كما فعلت في السابق بأكثر من مناسبة وسقت لكم إقامتها لسوق البسطات الشعبي في حي الشجاعية!! النقطة الأخرى التي أسألها للبلدية: هل كورنيش لا يزيد طوله عن كيلو مترين طولي يتحمل عدد 102 كشك وثمانية استراحات على الشاطيء؟!! وهل يعقل أن تنتشر الأكشاك بطول هذا الكورنيش القصير بمعدل كشك كل عشرين متر طولي تقريباً؟!! واستراحة كل 200متر طولي؟!! أليس هذا غريب وعجيب؟! إن ذلك وبدلاً أن يعطي الكورنيش والشاطئ وجهه الحضاري سيحوله إلى علبة سردين من الأكشاك والاستراحات وسنرفع شعار(كشك على الكورنيش لكل مواطن)!!
سابعاً/ العائد المادي الذي من المتوقع أن تجنيه البلدية من المشروع 102 كشك × 2500 دولار يعني ربع مليون دولار سنوياً!! هذا الرقم أعزائي لا يغطي ربع فاتورة رواتب موظفي البلدية لشهر واحد التي تبلغ مليون دولار شهرياً!! كما انه لو قورن بالمشاريع الأكثر أهمية التي كان يجب على البلدية القيام بها فوراً دون تأخير أو تباطؤ او تأجيل كان سيكون مشروعاً هامشياً! خصوصا أننا قلنا انه سيؤدي إلي فضل قذف قرابة 20 ألف مواطن في مهاوي المجهول!! السؤال هذا العائد المادي الضئيل هل يستحق هذه المغامرة بأرزاق الناس في هذا الوقت الصعب؟!!
ثامناً/ لو علمنا أن البلدية قررت تنفيذ الأكشاك عبر مقاولين وكانت المواصفات تنص على إنشاء الأكشاك من الباطون، فتقدمت شركتان أقلهما سعراً كان 5000 دولار للكشك الواحد!! أي أن تكلفة إنشاء الكشك ستبلغ أيجار سنتين كاملتين، بمعنى أن البلدية التي تعاني مالياً بقدر لا يعلمه إلا الله بدلاً من أن تجني ستدفع من خزينتها المتهالكة وستنتظر سنتين كاملتين حتى تبدأ بحصاد ربع مليون دولار سنوياً فقط!! مع التنويه أن البلدية قررت إلغاء المناقصة وقررت التحول إلى الأكشاك الخشبية لتقليل المصروفات وخفض التكلفة! وفي هذا خطأ عظيم!! لأن الأكشاك الخشبية في ظل استخدام الأفران والغازات ومناقل الشواء داخل هذه الأكشاك وعوامل البحر وغيرها سيؤدي إلى خرابها بعد فترة وجيزة من إنشائها!! فأكشاك الباطون عمرها الافتراضي سيدوم أكثر عشرات المرات عن الأكشاك الخشبية!! حتى في طريق تصنيع الأكشاك هناك للأسف تخبط وضيق شديد في مجال التصور والقرار!!
تاسعاً/ بالنسبة للذريعة التي ساقتها البلدية بأن المشروع قوبل بترحاب ورضا من الجمهور وساقت الدليل بأن جميع الأكشاك تم استئجارها قبل إنشائها!! أقول بأن ذلك لا يشكل دليلاً علي رضا الناس خصوصاً الذين نسمعهم ونشاهدهم منذ الإعلان عن المشروع يبكون ويولولون ويناشدون ويستغيثون جميع الجهات المختصة بحمايتهم وإنقاذهم من تبعات هذا القرار!! ومن خلال تجربتي العميقة في شؤون البلدية أكاد اجزم بأن الذي سيقوم باستئجار كشك في المرة الأولى لن يقدم على فعلتها مره ثانية أبداً!! وأؤكد إن الذي دفع الذين قاموا باستئجار الأكشاك هو حرصهم علي الإبقاء على فرصة عمل ولو كانت خاسرة لأن سكان القطاع جميعاً يعملون اليوم بنظام وبقانون(يمكن تظبط).
عاشراً/ أطالب البلدية مجدداً بالتوجه اليوم إلى الأولويات الأهم والأكثر جوهريةً حيويةً، فمثلاً على سبيل المثال لا الحصر: ما هو مصير سوق الأكشاك الشعبي بمنطقة اليرموك، ولماذا لا يتم تفعيل سوق كامل متكامل ولا يحتاج إلى شيء لافتتاحه وتشغيله؟!! لماذا لا يتم عمل ترميم مؤقت لسوق فراس الشعبي(70%) فارغ وتشغيله بشكل سريع دون تكتفة عالية؟! لماذا لا يتم عمل أسواق شعبية قليلة التكلفة سربعة الانجاز في جميع أحياء المدينة(من 50-100 بسطة أو كشك)؟! لماذا لا يتم خصخصة الخدمات التي تكلف البلدية الملايين شهرياً باشرافها ومتابعتها؟! هناك الكثير والكثير من الخطوات والمشاريع التي يجب على البلدية التوجه إليها فوراً!! وأن تضع كل المشاريع التي ستفاقم معاناة الناس في ظل الظروف الراهنة جانباً!!
ـــــــ كاتب المقال/
أولاً: الوحيد على وجه الأرض وبلا منافس أو منازع الحاصل على شهادة ماجستير من ٨٠٠ صفحة تتمحور حول بلدية غزة وتاريخها وأدوارها ورجالاتها ورؤسائها ومجالسها!! وشهادة دكتوراه حول مدينة غزة.
ثانياً: عمل متحدثاً رسمياً وناطقاً إعلامياً للبلدية طيلة ١٤ سنة متواصلة كان خلالها ناقل المعلومات الرئيسي عن البلدية ونشاطاتها ومشاكلها للرأي العام!!
ثالثاً: ترأس تحرير جريدة البلدية (مدينتا غزة) لمدة عشر سنوات متواصلة نقلت خلالها كل صغيرة وكبيرة عن البلدية وإداراتها وأقسامها ووحداتها ونشاطاتها للرأي العام اولاً بأول!!
رابعاً: الشخص الأقرب على الإطلاق لرؤساء البلدية المتعاقبين المرحوم بإذن الله عون الشوا(أبو السعدي) والمرحوم بإذن الله نصري خيال(أبو حسام) والمرحوم بإذن الله سعد الدين خرما(أبو العبد) القائم بأعمال رئيس البلدية، والدكتور ماجد أبو رمضان(أبو عوني) أطال الله في عمره. وقد أتاح لي ذلك التعرف على كل صغيرة وكبيرة في البلدية على مدار ١٥ سنة متواصلة.
خامساً: متابعة جميع أعمال ونشاطات ومشاريع البلدية ومعرفة جميع الموظفين من القاعدة وحتى القمة!!
سادساً: مشارك رئيسي وفاعل في رسم سياسات البلدية على مدار ١٥ سنة متواصلة.
سابعاً : مؤلف الكتاب الوحيد حول تاريخ المجالس البلدية لمدينة غزة.!!
ثامناً: ممثل البلدية في مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة والعنوان الإعلامي الأبرز للبلدية على مدار سنوات طويلة!!
تاسعاً : الصندوق الأسود لجميع أسرار البلدية ويكفي أنني أعلم من خبايا وأسرار عن البلدية ما لا يعلمه أحد مطلقاً!!
ختاماً لا أكتب لأنني أسعى لمنصب أو مركز أو شهرة فأنا لا أملك مقومات النجاح والفلاح في مجتمعنا الفلسطيني الثلاث التي تؤهلني للرياسة أو الزعامة (التنظيم والمال والعائلة)!! بل أكتب لأنني ابن غزة هاشم وشأنها من شأني وأهلها أهلي ووطني وعشيرتي... ألا هل بلغت اللهم فاشهد!!
بقلم/ د. ناصر الصوير الخبير في شئون البلديات
الباحث والكاتب والمحلل السياسي والناشط المجتمعي