في ظل موجة كورونا الثانية .. 3 أسباب لوضع استراتيجيات وطنية لسلاسل الإمداد الغذائي
المدينة نيوز: مع تواصل ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا على المستوى العالمي، وقيام عديد من الحكومات بتشديد الإجراءات الاحترازية للحد من تفشي الوباء مع دخول الموجة الثانية، عادت التساؤلات تطرح نفسها من جديد بشأن مدى تأثير تلك الإجراءات على سلاسل توريد الغذاء عالميا ومحليا.
الفترة التي تبنت فيها عديد من اقتصادات العالم وفي مقدمتها الاقتصادات المتقدمة والغنية سياسة الإغلاق كوسيلة أساسية لمكافحة تفشي الوباء، قد أدت إلى استنزاف معظم المخزون من السلع الغذائية الاستراتيجية، ولم تكن المدة الزمنية بين رفع قيود الإغلاق وعودة معدلات الإصابة بالفيروس للارتفاع من جديد كافية لإعادة مراكمة المخزون الغذائي مرة أخرى.
هذا الوضع يجعل البحث في قدرات سلاسل توريد الغذاء وعمليات الشحن وقدراتها على مواكبة الطلب الاستهلاكي سؤال يدخل ضمن نطاق التحديات الاستراتيجية بالنسبة للدول التي تعتمد على تلبية احتياجاتها الغذائية بالاستيراد من الخارج.
في الواقع فإن جائحة كورونا أدت إلى تعديلات في سلاسل التوريد على النطاق العالمي، بما يؤشر إلى وجود تغييرات طويلة الأجل في الصناعة، يضاف لذلك التغييرات السريعة والمهمة في أنماط التوريد ذاتها على جانبي العرض والطلب.
فعلى جانب العرض لا يزال عديد من الشركات في العالم تواجه نقصا في العمالة وانقطاع الإمداد وتعطيل النقل، إضافة إلى قيود أخرى، أما على جانب الطلب فما زال المستهلكون يظهرون أنماطا من الشراء ذات طابع تخزيني، إضافة إلى نمو كبير في التجارة الإلكترونية.
وإذ تشير توقعات خبراء الأوبئة إلى أن الوباء سيستمر لبعض الوقت وحتى اكتشاف مصل أو علاج ناجع للقضاء عليه، ومع الحديث عن دخول الموجة الثانية من تفشي الوباء، فإنه أمر شديد الأهمية لكل من المستهلكين والموردين التخطيط مسبقا للتأثيرات المتوقعة لفيروس كورونا في مجالات العرض والطلب والاقتصاد الكلي، ويعني هذا ضرورة وضع استراتيجيات وطنية لسلاسل الإمداد الغذائي لعدة أسباب.
وحول تلك الأسباب يقول لـ«الاقتصادية» الدكتور دومنيك داي من معهد الأمن الغذائي التابع لجامعة كامبريدج، "أولا، تعرضت سلاسل الإمداد الغذائي لصدمة شديدة بسبب التغيرات في العرض والطلب لم تكن مستعدة لها قبل تفشي المرض، ثانيا، تكالب المستهلكين على شراء الأغذية تجعل من صناعة الشحن ونقل الأغذية صناعة أساسية لضمان استقرار المجتمع، ثالثا، الحفاظ على الأمن الغذائي يتجاوز الاستقرار المجتمعي ليصبح مطلبا إنسانيا رئيسا".
لكن تلك التحديات لم تمنع من ظهور فرص في ثلاثة مجالات تتمثل في التحول السريع إلى الطلب على الإنترنت، والتغيير في ولاء المستهلك والتحول إلى التجديد المحلي.
وحول الفرص الثلاث وما تحمله في طياتها من إمكانات إيجابية لتطوير صناعة سلاسل التوريد تعلق لـ«الاقتصادية» الباحثة جورجي روبرت المتخصصة في مجال التجارة الدولية بالقول، "لأن وباء كورونا عزز أهمية الصحة والسلامة على المستويين الفردي والمجتمعي فإن الطلب على الإنترنت مثل جاذبية متزايدة للمستهلكين، إضافة إلى الراحة التي يوفرها، ويعد التغيير في ولاء المستهلك فرصة ثمينة للعلامات التجارية التي يمكنها ضمان توفر المنتج بعد أن استنزف المستهلكون أغلب المخزونات خلال فترات الإغلاق، وأخيرا يعد التجديد المحلي وسيلة للوصول إلى المستهلكين باستخدام قنوات إمداد أقصر، وعبر التأقلم مع التعقيدات المحتملة للنقل عبر مسافات طويلة، والسياسات غير المستقرة حاليا في مجال التجارة الدولية".
مع هذا يشير كثير من الخبراء إلى أن فهم طبيعة التحديات التي تواجه سلاسل التوريد يتطلب التميز بين فقدان الطعام وإهدار الطعام، فإهدار الطعام يتعلق في الأساس بسلوك وثقافة المستهلكين الشرائية والغذائية، أما فقدانه فيرتبط مباشرة بشبكات الخدمات اللوجستية وسلسلة التوريد والبنية التحتية، كما يمكن أن يعود فقد الطعام أيضا إلى عدم توفر المعلومات حول الوقت الملائم للعرض والطلب.
ووفقا للدكتور دومنيك نيكولس الاستشاري السابق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) فإن ثلث جميع المواد الغذائية التي يتم إنتاجها سنويا حول العالم يتعرض للفقدان والهدر.
وأكد لـ«الاقتصادية» أن "الفاو" سبق وأن أشارت إلى أن قيمة الغذاء الذي يتم فقدانه وهدره تبلغ نحو تريليون دولار سنويا مقسمة بين 680 مليار دولار في العالم المتقدم، و310 مليارات دولار في العالم النامي، وعلى أساس نصيب الفرد فإن نفايات الطعام في أوروبا وأمريكا الشمالية هي أكثر عشرة أضعاف ما يعادل نفايات الطعام في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب شرق آسيا.
مع هذا يرى الدكتور دومنيك أن سلاسل التوريد الغذائي كانت تواجه أوضاعا جديرة بمعالجتها حتى قبل جائحة كورونا، وما انتشار الفيروس وتفشيه إلا عامل أسهم على تسليط الضوء بشكل كثيف على مشكلات سلاسل توريد الغذاء العالمية.
ويضيف، "عند دراسة موضوع المشكلات في سلاسل توريد الغذاء عالميا تظهر لنا المعضلة التالية، أولا، تميل المناطق الأكثر تطورا وإنتاجية من الناحية التجارية في العالم - فيما يتعلق بإنتاج الغذاء - إلى أن تكون المناطق التي يوجد بها أعلى معدل لهدر الطعام، ثانيا، تميل المناطق الأقل نموا وإنتاجية من الناحية التجارية في العالم - من حيث إنتاج الغذاء - إلى أن تكون أيضا المناطق التي يوجد بها أعلى معدل لحدوث فقدان الغذاء، بمعنى آخر في العالم المتقدم يهدر الطعام في الأغلب بعد وصوله إلى مؤسسات البيع بالتجزئة ومن قبل المستهلكين، وفي العالم النامي يفقد الطعام في الأغلب قبل أن يصل إلى مؤسسات البيع بالتجزئة والمستهلكين".
ويعتقد البعض أن هذه التحديات التي تواجهها سلاسل توريد الغذاء العالمي يمكن التغلب عليها من خلال الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، الذي يمكن الشركات من تحسين الفجوة بين العرض والطلب، وأتمتة عملية صنع القرار وتوجيه الطلبات إلى المستودعات وتحديد المستهلكين المستهدفين، بحيث تسمح سلاسل التوريد الآلي للشركات بإدارة سلسلة التوريد بشكل كامل بفاعلية أكثر دقة وسرعة وأقل فقدانا للمواد الغذائية.
ويعتقد المهندس أرثر فيث أستاذ نظم الاتصالات في جامعة شيفيلد أن الروبوتات ستلعب دورا حيويا في سلاسل التوريد المستقبلية عبر مجموعة واسعة من التطبيقات، وبما يسمح بخفض الاعتماد على سلاسل التوريد والتخزين التقليدية.
ولـ«الاقتصادية»، يضرب مثلا بذلك حول قيام خبراء التصميم والشركات المصنعة لروبوتات المستودعات بإدخال نظام الفرز الآلي في المستودعات بشكل مباشر لتمكين شركات البيع بالتجزئة وشركات التجارة الإلكترونية من إدارة شبكات التوزيع بنفسها.
وربما تزداد أهمية الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مجال سلاسل التوريد، إذا أخذ في الحسبان أن البيانات المتاحة تشير إلى أن العمال الأكثر خبرة، الذين تراوح أعمارهم بين 55 - 75 عاما يتقاعدون بمعدل عشرة آلاف عامل يوميا على مستوى العالم.
ويعتقد الخبراء أن توقعات العملاء ذاتها تدفع في اتجاه لجوء صناعة سلاسل التوريد عامة والغذائية على وجه الخصوص إلى مزيد من الاستخدام الكثيف للذكاء الاصطناعي، خاصة مع التوقعات المتزايدة للعملاء بالحصول على سلع منخفضة التكلفة وبجودة عالية مع توفر فوري لاحتياجاتهم.
ويتطلب ذلك في جزء كبير منه ضغط الوقت في سلاسل التوريد بأكملها بدءا من تصميم المنتج حتى توفره للعميل، ولا شك أن الذكاء الاصطناعي يتيح ضغط الوقت من خلال الأتمتة وتعزيز قدرة اتخاذ القرار بشكل أدق وأسرع في الوقت ذاته.
وربما يكون الدرس الأساسي المستفاد من تفشي وباء كورونا أن سلاسل التوريد خاصة توريد المواد الغذائية في حاجة إلى مزيد من المرونة في اقتصاد شديد العولمة. وعلى الشركات دمج الحلول القابلة للتطوير والتكيف مع التطور التكنولوجي خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي المستخدم في مجال إدارة سلاسل التوريد، لتعظيم القيمة التي يحصل عليها العميل وتحسين الميزة التنافسية للشركات ذاتها لضمان البقاء في السوق في هذه الأوقات الاقتصادية غير المستقرة.