التاريخ النبيل يستنير بقوله تعالى: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ"
تاريخنا النبيل يصافح يومَنا الجميل، في مواقف نزهو بها على الدنيا، وهي تضعنا في المسار الصحيح، نحو طمأنينة بال، وحسن حال، فمع العفوِ تمخر أقلامُنا في بحره، وتطير أحلامُنا في فضائه، فهو نقطة تحوّل في حياة الأفراد والأمم، ولا يقدر على تجاوز العاصفة إلا قبطانٌ يقف في وجه الأمواج، ويبرهن على أنّ المركب أمانة عنده لا يمكنه أن يتخلى عن تلك الأمانة، في موقف نبيل يسطره التاريخ.
ومع المواقف النبيلة، ساقني جميل ما سمعته من موقف جليل، إلى ما قبل الإسلام، ومع نبيّ الإسلام، وصولا إلى سليل الدوحة الهاشمية، وهنا نذاكر التاريخ لنبني الحاضر:
فلما ظهر سيف بن ذي يزن على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله ﷺ بسنتين، أتته وفود العرب تهنئه، وفيمن أتاه وفود قريش، وكان على رأسهم عبد المطلب بن هاشم، ومعه أمية بن عبد شمس أبي عبد الله، وعبد الله بن جدعان، وخويلد بن أسد، في أناس من وجوه قريش. وعبد المطلب بن هاشم الذي هشم الثريد في مكة إكراما للناس، وهو جد القرشيين في زمانه، فقام إليه الملك سيف بن ذي يزن يستقبلهم في "غُمدان" وقال مصافحا لهم، كلمته المشهورة: (مرحبًا).
وتشرق الأيام من جديد، ويكون الوفاء لهذا القيام وذلك الترحيب، في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم، وذلك حينما جاءه وفد اليمن، فقال لأصحابه: (قد جاءكم أهلُ اليمنِ وهم أولُ من جاء بالمصافحةِ). ففي ذلك الاستقبال إيذانٌ باستقبال خاصٍّ، وإشارةً إلى ذلك الموقف الذي كان من قيل، فهو صلى الله عليه وسلّم، القائل: " إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ"، "مكارمَ الأخلاقِ" أي: أُكمِّلَ ما انتقَصَ منها.
ولتمام الأخلاق وإكمالها، جاء الموقف النبويّ الذي لم تعرفه الأمم من قبل، بقوله يوم فتح مكة: (اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ). ليصبح الطلقاء بعدها، ساعين جاهدين لخدمة الدين والأمة، مشاركين في بناء الإنسانية، وهم يتفانون لأجل دعوة الإسلام، ونشر السلام، ليدركوا ما فاتهم يوما من الأيام.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فمن "غُمدان" سيف بن ذي يزن، وصولا إلى "غمدان" ابن الحسين، الذي سطر الموقف النبيل جلالة الملك، بقوله: (أنا واجبي وهدفي والأمانة التي أحملها هي: خدمة وحماية أهلنا وبلدنا).
فرأينا شيئا أراح نفوسًا غصّتها الأيام القريبة، فجاء العفو ليعطيها درسا في الحياة لا ينسى، بتطبيقاتٍ لتعاليمِ القرآن الكريم، من قوله تعالى: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ". واقتداءً بعفو النبيّ الكريم، يوم الفتح المبين على أبناء العمومة والمقربين، بصفح الأقوياء الأعزاء، وعفوٍ قلّما تعرف له المواقف مثيلا، فيستنير التاريخ بهدي القرآن الكريم، وبعفو الكرام عن قدرة، واستجابة ملكية لطلب الكرام من قائد كريم.
فحدثني عن الأردن ذلك البلد الطيّب أهله، الذين يتقنون تجاوز العقبات ومحو المعيقات، بأخلاق الكرام وبطولات عظام.. نعم، حدثني عن الأردن الأَشم وهو الشامة بين العربِ والعجم. حدثني عن الأردن.. قيادة وشعبًا بمبادئَ سامية تسمو بالإنسانية وتخطّ لها أنموذجا فريدا، حدثني عن الوعي والفكر لأقول لك: ذلك الأردنّ وطني، وطن الأحرار وطن الهاشميين من سلالة الدوحة النبوية..