تحقيق يكشف أسرار "الفأس السوداء" التي غدت عصابة عالمية
المدينة نيوز :- كشف تحقيق عن جماعة "الفأس السوداء" وهي جمعية طلابية نيجيرية تحولت إلى عصابة مافيا، عن أدلة جديدة تشير إلى اختراقها للحياة السياسية وضلوعها في جرائم قتل واحتيال تشمل العالم بأسره.
"الفأس السوداء" تعرف محليا في نيجيريا بأنها "طائفة" نظرا لطقوس الانضمام السرية التي تعتمدها والولاء الاستثنائي الذي يتميز به أعضاؤها، وقد نالت الجماعة شهرة نظرا لاستخدامها العنف المفرط، بحسب تحقيق لـ"بي بي سي" البريطانية.
ونقلت "بي بي سي" عن الأكاديمي جون ستون، الذي كان عضوا بارزا لعقود عدة في جماعة الفأس السوداء، أنه يقر بالمشاركة في ارتكاب فظائع في السنوات التي قضاها مع الفؤوس، وكان يعرف بـ"الجزار".
ويشعر ستون بالندم لما اقترفه، وأصبح منتقدا لاذعا للعصابة التي خدمها في الماضي. وهو واحد من 12 من طائفة الفأس السوداء قرروا كسر قسم الولاء الذي أدوه للجماعة وكشف أسرارهم لـ"بي بي سي" في أول اتصال لهم مع الاعلام العالمي وفقا لـ "عربي21".
وكشفت "بي بي سي" آلاف الوثائق السرية التي سرّبت من اتصالات العصابة الخاصة. وتشير هذه الأدلة إلى أن الفأس السوداء أصبحت في العقد الأخير واحدة من أخطر عصابات الجريمة المنظمة وأكثرها انتشارا في العالم. فهناك "رجال فؤوس" يقيمون في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. وقد تجد رسالة إلكترونية بعثوا بها في صندوق بريدك.
وكشفت "بي بي سي"، عن رسائل تهديد إحداها مكتوبة بخط اليد أرسلت إلى صحفي في الوكالة البريطانية عام 2018 بواسطة رجل يستقل دراجة نارية قام بإلصاقها على الزجاجة الأمامية لسيارة الصحفي، وأخرى سلمت إلى أسرته.
التوصل إلى عشرات الآلاف من وثائق الفأس السوداء السرية
ونقلت الوكالة البريطانية عن رجل ادعى بأنه تمكن من اختراق وقرصنة عشرات الآلاف من وثائق الفأس السوداء السرية مصدرها المئات من أعضائها. وتشمل الوثائق، التي يعود تاريخها إلى الفترة من 2009 إلى 2019، مراسلات تتعلق بجرائم القتل وتهريب المخدرات. وتشرح الرسائل الإلكترونية بالتفصيل عمليات احتيال عبر الإنترنت تتسم بالإتقان والربحية المرتفعة. كما تتطرق بعض الرسائل إلى توسع الجماعة عالميا. كانت هذه الوثائق عبارة عن فسيفساء لنشاطات الفأس السوداء الإجرامية التي تمتد عبر أربع قارات.
يدّعي مصدر الاختراق والقرصنة بأن الفأس السوداء تريد قتله. ولذلك رفض البوح باسمه الحقيقي، واستخدم اسم "أوشي توبياس" عوضا عن ذلك.
وقضت "بي بي سي" عدة شهور في تحليل الوثائق التي حصل عليها توبياس. وتمكنا من التحقق من أجزاء رئيسية من المعلومات المتعلقة بهويات الأشخاص المذكورة أسماؤهم وعدد من الجرائم المذكورة في الوثائق. كان الكثير مما احتوته الوثائق المسربة مروعا جدا ولا يمكن نشره.
وكان "رجال الفؤوس" يستخدمون منتديات سرية ومواقع إلكترونية لا يمكن الوصول إليها دون استخدام كلمات سر لتبادل صور جرائم القتل.
تخوض "الفأس السوداء" صراعا من أجل السيادة والهيمنة مع العديد من "الطوائف" المنافسه لها داخل نيجيريا - وهي عصابات إجرامية تحمل أسماء مثل "الآي" و"القراصنة" و"المافيويين". وتظهر مكتوبة باللغة الإنجليزية المبسطة المستخدمة في غرب أفريقيا كيف يقوم رجال الفؤوس بتوثيق جرائم القتل التي يرتكبونها بحق أفراد العصابات المنافسة ويسجلون أعداد هذه الجرائم كما تسجل نتائج مباريات كرة القدم.
جاء في احدى المراسلات: "النتيجة الآن 15-2 الحرب في بينين"، بينما جاء في رسالة أخرى "ضربة في ولاية أنامبرا. النتيجة رجال الفؤوس 4 والقراصنة 2".
الدخل الرئيسي للعصابة الاحتيال الإلكتروني
لكن مصدر الدخل الرئيسي للعصابة يتمثل في الاحتيال الإلكتروني وليس القتل. وتشمل الوثائق التي اطلعت عليها "بي بي سي" فواتير وتحويلات مصرفية وآلاف الرسائل الإلكترونية التي تبيّن تعاون أعضاء الفأس السوداء في ما بينهم في عمليات احتيال عبر الإنترنت حول العالم. ويتبادل أعضاء العصابة نماذج لكيفية القيام بعمليات الاحتيال هذه.
وتشمل الخيارات عمليات احتيال تستغل العلاقات العاطفية وأخرى تتعلق بالإرث والأملاك والأعمال التجارية يفتح من أجلها المجرمون حسابات بريدية تبدو وكأنها تعود إلى محامي أو محاسبي الضحايا من أجل اعتراض المدفوعات المالية والاستحواذ عليها.
ليست عمليات الاحتيال هذه محدودة النطاق يقوم بها شخص واحد باستخدام حاسوب لابتوب، بل هي عمليات منظمة وتعاونية ومربحة للغاية يشارك في بعضها عشرات العناصر يعملون بالتنسيق عبر عدة قارات.
واكتشفت "بي بي سي" ضمن الرسائل المسربة قضية رجل في ولاية كاليفورنيا الأمريكية استهدفته شبكة تعود لمن يشتبه بأنهم من رجال الفؤوس في عام 2010 من نيجيريا وإيطاليا. وقال الرجل إنه خسر 3 ملايين دولار في عملية الاحتيال تلك.
وجاء في رسالة بعث بها الضحية إلى أحد المحتالين لحظة اكتشافه بأن أمواله قد اختفت أن "المصرف الذي أتعامل معه لا يبدو له وجود؟؟؟" الجواب: "هل أستطيع أن أكون أكثر وضوحا؟؟ يبدو أن المصرف السويسري مزور".
وتظهر الرسائل الإلكترونية أن أفراد الفأس السوداء يستخدمون أسماء من جوازات سفر مسروقة أو مزورة في عمليات الاحتيال التي يقومون بها. ويشيرون إلى ضحاياهم بالـ"موغو" أو الـ"مايي" - وهي عبارات نيجيرية دارجة تعني "الحمقى".
من المحتمل جدا أن تكون شبكة الجريمة السيبرانية التي تقودها الفأس السوداء تعود بأرباح تقدر بمليارات الدولارات لأفراد العصابة. ففي عام 2017، أعلنت السلطات الكندية أنها فككت مخططا لتبييض الأموال يعود للعصابة تتجاوز قيمته 5 مليارات دولار. ولا يعلم أحد عدد المخططات المشابهة التي تشرف عليها الفأس السوداء والتي ما زالت ناشطة إلى اليوم. وتبيّن الوثائق المسرّبة الاتصالات التي يقوم بها أفراد العصابة بين نيجيريا وبريطانيا وماليزيا ودول الخليج و12 دولة أخرى.
توسع الفأس السوداء عالميا
قال مصدر التسريبات إن الأمر "منتشر في كل أرجاء العالم". ويقول إنه يعمل محققا في قضايا الاحتيال والتزوير وبدأ في تعقب الفأس السوداء بعد تعرفه على عدد من ضحاياها.
ويقول، "حسب تقديري، يتجاوز عدد أفراد العصابة الـ 30 ألفا".
ومما لا شك فيه أن توسع الفأس السوداء عالميا تم بموجب خطة وضعت بعناية فائقة. فالمراسلات تظهر أن رجال الفؤوس يقسمون المناطق الجغرافية إلى "قواطع" ويعينون رؤساء محليين لكل منها.
وتتخذ الولايات المتحدة نهجا أكثر حزما في التعامل مع الفأس السوداء. فقد شن مكتب التحقيقات الفيدرالي عمليات تستهدف العصابة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 وأيلول/ سبتمبر 2021 مما أسفر عن توجيه تهم إلى 35 من أفرادها بارتكاب جرائم احتيال إلكتروني تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات.
وشنت الاستخبارات السرية الأمريكية بالتعاون مع الشرطة الدولية الإنتربول بين شهري أيلول/ سبتمبر وكانون الأول/ ديسمبر من هذه السنة عملية على نطاق دولي من أجل اعتقال 9 آخرين من أعضاء الفأس السوداء في جنوب أفريقيا.
رغم امتداداتها الدولية، فإن جذور عصابة الفأس السوداء غارزة بقوة في نيجيريا. وكانت العصابة قد تأسست قبل 40 عاما في مدينة بينين في ولاية إيدو النيجيرية.
وينحدر معظم رجال الفؤوس من هذه المنطقة، وقد يكون لهذا الإنتماء دور في توسع العصابة على الصعيد العالمي. فحسب مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، ينتمي 70 بالمئة من النيجيريين الذين يهاجرون إلى الخارج إلى ولاية إيدو. وتقول التقارير إن الفأس السوداء تلعب دورا محوريا في تهريب المهاجرين غير الشرعيين إذ تنقلهم من قواعدها في مدينة بينين إلى الشمال الأفريقي وجنوبي إيطاليا.
الفأس السوداء والحركة الأفريقية السوداء الجديدة
ويعدّ خريجو الجامعات الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 16 والـ 23 الشريحة الأهم التي يستهدفها مُجَنِدو العصابة. وتشتهر طقوس التعميد السرية التي تتبعها الفأس السوداء (والمعروفة بالـ "بامينغ") بوحشيتها الاستثنائية.
ويقول د. ستون إن الانضمام إلى الفأس السوداء قد يضمن للفرد الحماية ويفتح بوجهه فرص ولوج المجال التجاري. ويقول إنه ليس كل المنتمين إلى العصابة مجرمون، ويمضي للقول، "هناك بين الأعضاء أفراد في الجيش والبحرية والقوة الجوية، وأكاديميون وحتى كهنة ورجال دين."
ونمت الجماعة من جمعية طلابية كانت تسمى الحركة السوداء الأفريقية الجديدة. أسست هذه الجمعية في جامعة بينين في سبعينيات القرن الماضي، وكان شعارها عبارة عن فأس سوداء تحطم قيودا. وقال مؤسسوها إن الهدف منها هو محاربة الظلم والقمع.
ويدّعي ستون أن الفأس السوداء و الحركة الأفريقية السوداء الجديدة هما منظمة واحدة. ويتحدث د. ستون عن خبرة وتجربة. فلم يكن عضوا في الفأس السوداء فحسب، بل كان أيضا مسؤولا رفيعا في الحركة الأفريقية السوداء الجديدة في معقل الفأس السوداء، مدينة بينين.
"ويقول، "إنها نفس المنظمة، ولكنه أصبح من الأمور الشكلية الفصل بينهما لأجل التعمية. إنها عملة ذات وجهين".
وحسب ما يقول توبياس، فإن الحركة الأفريقية السوداء الجديدة لعبت دورا بارزا في الانتشار السري للفأس السوداء حول العالم،" ويضيف "أن الحركة الأفريقية السوداء الجديدة كمنظمة عبارة عن تمثيلية، إنها واجهة فقط، إنها الوجه العلني للفأس السوداء."
ويدعي بأن "الهدف النهائي" للحركة الأفريقية السوداء الجديدة يتمثل في "تقويض وإفساد الرأي العام" من أجل اخفاء "الحقيقة، وهي أنها عصابة مافيا."
يذكر أن العديد من المنظمات العاملة تحت اسم الحركة الأفريقية السوداء الجديدة مسجلة في دول شتى منها بريطانيا وكندا. وهناك 50 حسابا على الأقل في فيسبوك ويوتيوب وانستغرام تحمل أسماء قريبة من اسم الحركة، علاوة على قنوات التواصل الاجتماعي الرسمية التابعة لها. ولبعض هذه الحسابات أكثر من مئة ألف متابع. وتشمل مواقع أخرى إشارات واضحة للفأس السوداء مثل الكاريكاتيرات وصور لأشخاص يحملون فؤوسا وبنادق وحتى تحتوي في بعض الأحيان على الهتاف المميز للعصابة "رجال الفؤوس المطيعون".
التغلغل في السياسة بنيجيريا
لقد نجحت الحركة الأفريقية السوداء الجديدة في إثبات وجودها كعلامة تجارية عالمية في العديد من الدول. أما في نيجيريا نفسها، فيقول د. ستون إن نفوذها يمتد ليشمل الفضاء السياسي.
وقال: "العديد من أفراد العصابة نواب في البرلمان، وحتى في الحكومة. هذه حقيقة الفأس السوداء. هذا ما تدعو له الفأس السوداء: الاستحواذ على أي منصب أو موقع ممكن".
ويقول الناشط كورتيس أوغبيبور إن الحياة السياسية في ولاية إيدو مزدحمة بأعضاء الفأس السوداء، ويضيف: "السياسة في نيجيريا تشبه المافيا. فسياسيونا وحكومتنا في كل درجاتها تشجع شبابنا على الانتماء إلى الطوائف والعصابات".
ويزعم أوغبيبور أن السياسيين النيجيريين الطامحين يستأجرون أعضاء في الفأس السوداء لتخويف منافسيهم وحراسة صناديق الاقتراع وإجبار الناس على التصويت. وما أن يفوز هؤلاء السياسيون بمناصب في الدولة حتى يكافئون الفؤوس بمنحهم وظائف في الحكومة.
ويقول، "يسلحونهم ويغدقون عليهم الأموال أثناء الانتخابات، ويعدونهم بتعيينات ومناصب سياسية".
وتوحي وثيقتان، يبدو أنهما سربتا من الاتصالات الداخلية للحركة الأفريقية السوداء الجديدة، بأن مبلغا قدره 35 مليون نايرا (أكثر من 64 ألف من الجنيهات الإسترلينية) قد حوّلت إلى الحركة في مدينة بينين من أجل "حماية الأصوات" وضمان التأييد في انتخابات حاكمية الولاية في عام 2012. ولقاء هذا الإسناد، جاء في الملفات أن "80 موقعا وظيفيا خصصت للحركة الأفريقية السوداء الجديدة فرع بينين للتعيين الفوري في حكومة الولاية". ويقال إن هذه الأموال وزعت بشكل مباشر بواسطة رئيس ديوان الولاية آنذاك سام إيريديا الذي توفي لاحقا.
وخلال لقاءات مع كبار زعماء الحركة الأفريقية السوداء الجديدة في لاغوس، أكد محاميهم أن عددا من السياسيين هم أعضاء في الحركة، مشيرا إلى نائب حاكم ولاية إيدو، فيليب شايبو كمثال على ذلك.
ويعتقد ستون بأن سلطات الأمن النيجيرية والسياسيين النيجيريين متداخلون مع الفأس السوداء إلى حد لا يستطيعون عنده مكافحتها بشكل فعّال. ويقول إن حل مشكلة العنف يكمن داخل العصابة ذاتها.