خواطر سياسية في وداع عام واستقبال عام جديد
غادرنا العام 2021، تاركاً وراءه العديد من الملفات الفلسطينية، يجمع بينها قاسم مشترك: إنها تفتقر إلى حلول واقعية تلتقي حولها الأطراف الفلسطينية، في صناعة مرحلة كفاحية جديدة. ما زال الانقسام، واتفاق أوسلو، وسياسة الهيمنة والتفرد، والتصعيد الإسرائيلي، على ما هو عليه، ولا شيء ينبئ أننا أمام فرصة لحل، ولو لبعض هذه الملفات، أو وضع القدم على الطريق الصحيح نحو حلها، بما في ذلك الدعوة الغامضة والمترددة لعقد دورة جديدة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، يخرج بقرارات وتوجهات تستجيب للضرورات الوطنية، كأساس لاستعادة التوافق بين الأطراف المعنية.
وفي هذا السياق؛ نتساءل:
• هل تعتقد القيادة السياسية في السلطة الفلسطينية، أن حركة حماس، وغيرها من الفصائل، كالجبهتين الديمقراطية والشعبية، على استعداد للقبول بحكومة وطنية، مقابل الموافقة على قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة من السلطة الفلسطينية (أي أوسلو وغيرها من البروتوكولات السياسية والأمنية والاقتصادية)، في الوقت الذي تدعو فيه فصائل المعارضة إلى الخروج من اتفاق أوسلو؟
• هل تعتقد القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية؛ أن الأمم المتحدة سوف تستجيب للنداء الفلسطيني بتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، دون خوض معركة مع مندوب الولايات المتحدة في مجلس الأمن، في الوقت الذي تؤكد فيه قيادة السلطة على حرصها على تطوير العلاقة مع واشنطن؟
• هل تعتقد القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية؛ أن المجتمع الدولي (أي الأمم المتحدة) سوف يستجيب للنداء بالضغط على دولة إسرائيل لوقف أعمالها العدوانية اليومية في الضفة الفلسطينية، من غزو للمنازل والأحياء والاعتقال الجماعي للفلسطينيين أو إعدامهم بدم بارد في الشوارع وتركهم ينزفون حتى الموت، دون أن يبادر الشعب الفلسطيني، ومعه أجهزة السلطة الفلسطينية للدفاع عن نفسه؟
• هل تعتقد القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية؛ أن مجلس الأمن سوف يلجأ إلى الباب السابع لتنفيذ قراره رقم (2334)، والذي اتخذه بالإجماع في 23/12/2016؛ بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الفلسطينية، وقد مضى على صدور القرار خمس سنوات، وهو يدخل الآن عامه السادس، دون أن تبالي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة به أو بالمجلس الذي أصدره؛ رغم أنه صدر بالإجماع مقابل امتناع مندوب الولايات المتحدة آنذاك عن التصويت، مما يؤكد قوة هذا القرار.
إنكار الواقع
حركة فتح على لسان الرئيس محمود عباس، تضع شرطيها المذكورين آنفاً لإنهاء الانقسام، والتصالح مع حماس، والدخول في شراكة في م. ت. ف، وتتهم حماس بأنها تسد الطريق إلى المصالحة، برفضها هذه الشروط، وفي السياق ترفض أية إشارة إلى «طرفي الانقسام»، وتزعم أن هناك طرفاً واحداً للانقسام، هو حركة حماس.
وحركة حماس من جهتها، تضع «حلها» لإنهاء الانقسام، بالدعوة لتشكيل قيادة وطنية مؤقتة، تجعل منها شريكاً مساوياً لفتح في إدارة الشأن الوطني، وعبر القيادة المؤقتة هذه، يتم وضع الحلول التفصيلية لإنهاء الانقسام. وتدرك حركة حماس أن فتح ترفض هذا الاقتراح، لأنه يجردها من استفرادها بالقرار السياسي، وكما فتح كذلك حماس، ترفض أية إشارة إلى «طرفي الانقسام»، وتزعم أن هناك طرفاً واحداً، هو فتح، وتحمل حماس حركة فتح مسؤولية إحباط الاتفاقات والتوافقات التي توصلا لها معاً، في أنقرة، وفي القاهرة، لتنظيم الانتخابات العامة، حيث لجأ الرئيس عباس إلى إلغاء الانتخابات بذريعة رفض إسرائيل تنظيمها في القدس.
ولا شك في أن حوادث برج الشمالي، قرب صور، صبت الزيت على نار الخلافات بين الطرفين، وامتد الاحتراب الإعلامي بينهما إلى لبنان، حيث يتهم كل طرف الطرف الآخر بالعمل على الهيمنة على المخيمات، وفي وقت يدرك فيه الطرفان، أن لا أحد بإمكانه الهيمنة على المخيمات في لبنان، وأداء دور السلطة، على غرار الضفة الغربية أو قطاع غزة، لأن السيادة، أولاً وأخيراً، هي للدولة اللبنانية، وأن اللاجئين في المخيمات هم ضيوف على البلد، وليسوا على قطعة من أرض فلسطين، حى يتنازعوا فيها على السلطة.
وإن دلَّ هذا النزاع بين الطرفين على شيء، فهو يدل على هشاشة في قراءة الواقع الفلسطيني، وتغليب الرؤية الفئوية المحدودة على الرؤية الوطنية بأبعادها المختلفة.
في الوقت نفسه، يتزاحم الطرفان، كل من موقعه، لكسب الرأي العام، بتأكيده على ما يسمى «الثوابت الوطنية»، التي بالإمكان تبديلها، وإعادة صياغتها وفقاً للتكتيكات اليومية لكل طرف.
فحركة فتح، ومنذ خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة، وهي تلوح بما بات تسميه «الخطاب التحذيري»، لأنه في قسمه الثاني، أطلق إنذاره، بمنح «إسرائيل مدة عام واحد لتستجيب للدعوة إلى المفاوضات تحت رعاية «الرباعية»، وإلا تخلى عن اتفاق أوسلو، وذهب إلى خيارات بديلة: كالمطالبة بتطبيق القرار 181 بتقسيم فلسطين لتقوم الدولة الفلسطينية على المساحة التي منحت لها بموجب القرار المذكور، أو حتى الذهاب إلى المطالبة بالدولة الواحدة، بدعوى أن ذلك من شأنه أن يغرق إسرائيل بالفلسطينيين، وأن يلغي هويتها «اليهودية».
لكن فتح تتجاهل أن القسم الأول لخطاب الرئيس عباس كرّسه لتأكيد التزام السلطة باتفاق أوسلو، وتمسكها بالمفاوضات تحت سقف «الرباعية»، حلاً وحيداً للقضية. كما تتجاهل فتح، ما طرأ على الخطاب من «تطورات»، أفرغت قسمه الثاني من مضمونه «التحذيري» المزعوم، حين توقف الرئيس عباس عن الإشارة إلى القرار 181، وحل الدولة الواحدة، وعاد ليؤكد تمسكه بحل الدولتين، داعياً الولايات المتحدة إلى العمل على استئناف المفاوضات، مشدداً على حرصه على تطوير العلاقة وتثمينها مع واشنطن، وحين اشترط على حماس الموافقة على أوسلو مقابل إنهاء الانقسام.
ولعل آخر ما دخل من «تطوير» على خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو ما جرى بين الرئيس عباس وجيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، حين اكتفى الرئيس عباس طلب إلى سوليفان الضغط على إسرائيل لتلتزم الاتفاقات الموقعة، دون أن يأتي على ذكر استئناف المفاوضات تحت «الرباعية الدولية»، في مقايضة بين المسألتين، مما أفرغ حتى القسم الأول من خطاب الأمم المتحدة من مضمونه، المتعلق بالدعوة إلى المفاوضات، بعد أن أوضح سوليفان للرئيس عباس أن لا مفاوضات قريباً، لانشغال البيت الأبيض بعشرات الملفات الدولية والإقليمية، ولرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت الذهاب إلى المفاوضات، ولامتناع الولايات المتحدة عن الضغط على حكومة إسرائيل بدعوى التخوف من انهيارها. أي تغليب التفاهمات الأميركية – الإسرائيلية على أية تفاهمات أو وعود أميركية للسلطة الفلسطينية.
بين «سيف القدس» والحل الاقتصادي
أما حماس، بدورها، وقد وجدت نفسها غارقة في الهموم اليومية التي خلفها العدوان الإسرائيلي على القطاع، من إعادة إعمار، وضمان استمرار المنحة القطرية، وإعادة بناء أو ترميم البنية التحتية، فلم تجد ما هو أقوى من «سيف القدس» تشهره في كل مناسبة، تهدد بالعودة إليه، في حال تطاول الاحتلال على مدينة القدس، والأقصى وباقي المقدسات. غير أن الواقع يقول إن مخطط إسرائيل لتهويد القدس ما زال على ما هو عليه، ولم يدخل عليه أي تغيير.
فالأقصى يتعرض لاقتحامات يومية من المستوطنين اليهود، يؤدون في باحاته الصلوات التلمودية.
وحي الشيخ جراح يتعرض يومياً للتنكيل، وما هو مطروح كحل له، من شأنه أن يهجر السكان جماعياً، ويستولي عليه المستوطنون دون أن نتناسى عمليات الهدم التي تقوم بها قوات الاحتلال، لمنازل القدس، بدعوى أنها غير مرخص لها من بلدية الاحتلال.
وعمليات القمع اليومية (والقتل أحياناً) لسكان القدس، تتواصل بكل جلافة، ودون أي وازع.
لا شك أن حماس تدرك أن ظروف اشتعال «حرب القدس»، و«سيف القدس»، جاءت في سياق سياسي معين، قد لا يتكرر حرفياً، وإن كانت كل الدلائل تؤكد أن الضفة الفلسطينية مقبلة على انتفاضة ينتظرها الجميع.
كما أن على حركة حماس؛ أن تدرك أن ساحة المواجهة الرئيسية مع الاحتلال، هي الضفة الفلسطينية، وليس قطاع غزة، فالأطماع الإسرائيلية هي في الضفة، ومخطط تقويض إرادة الصمود، ينصب على الضفة، مقابل محاولة «تقييد» المقاومة في القطاع، بتقديمات اقتصادية واجتماعية للمواطنين، تحد من حرية قرار القتال عند المقاومة، مراعاة لحالة مستجدة.
دعوة إلى الطرفين
لذلك على السلطة الفلسطينية وهي تغادر العام 2021، وتستقبل عاماً جديداً، أنن تدرك أن استنقاعها في اتفاق أوسلو، ورهانها على مفاوضات تحت «الرباعية الدولية»، ونداءاتها المتكررة، إلى المجتمع الدولي، دون أية استجابة فعلية، سوى بيانات ومواقف لتطييب الخاطر، وضمان استمرار الهدوء.
على السلطة أن تدرك أن هذا الخيار لن يقود سوى إلى مزيد من الاهتراء في أوضاع السلطة، وفي أوضاع فتح، بحيث تجد فتح نفسها، كما تجد السلطة نفسها، موضوعاً للنزاعات الداخلية على حساب التفرغ للاحتلال.
والأمر نفسه، بشأن حماس، التي عليها أن تدرك أن الشعارات الرنانة لا تجدي نفعاً، وأن السياسة الرجراجة، لا تعبئ الصفوف، وأن الاعتماد على الصاروخ وحده، ليس هو الحل، فلولا النهوض الجماهيري الذي عمَّ الضفة (والقدس) ومناطق الـ48 والشتات، لما توفر للصاروخ الغطاء السياسي الذي مكنه من أن يؤدي دوراً بطولياً أوجع جيش العدو وأذله. وأن من شروط التعبئة السياسية الناجحة العمل الجدي على إنهاء الانقسام، وامتلاك برنامج نضالي واقعي، يمكن العودة إلى وثيقة نيسان (إبريل) 2017؛ لاستخراج عناصره الرئيسية ■
عضو المكتب السياسي
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين