كلما خفتت نيرانها يشعلها

المدينة نيوز :- "بلدي ليس بخير"، هكذا عبر الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان عن وضع الولايات المتحدة بنهاية عام 2021. كرر الجملة 3 مرات بصوت ينضح بالحسرة والحزن.
فريدمان، الحائز على جائزة البوليتزر للصحافة 3 مرات وهي بمثابة الأوسكار في مجال الفن، كان يرد على سؤال بشأن ما إذا كانت الهيمنة الأمريكية على العالم قد وصلت إلى محطة النهاية.
ولم يكن فريدمان مبالغاً في حزنه، فهناك ما يشبه الإجماع بين المحللين وخبراء الاستراتيجية في الغرب والشرق على السواء بأن 2021 هو عام ضياع الهيبة الأمريكية عالمياً، لكن يبدو أن الرئيس جو بايدن وجد الحل السحري كي يحقق هدفه الرئيسي وهو "عودة أمريكا لقيادة العالم".
ودون مقدمات، أصبحت الحرب في أوكرانيا بمثابة حبل النجاة لقوة عظمى بدأت تظهر عليها أعراض الشيخوخة؛ فالعنصرية والانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين والانسحاب المهين من أفغانستان وفقدان النفوذ في الشرق الأوسط واهتزاز ثقة الحلفاء والانكماش الاقتصادي وغيرها كثير، أمور شجعت الكثيرين على تحدي الهيمنة الأمريكية وأصبح الحديث عن أفول نجم العم سام ملء السمع والبصر.
وهكذا بدأت طبول الحرب في أوروبا على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، تدق أولاً من داخل المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. فتحذيرات بايدن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أي تحرك عسكري في أوكرانيا تحولت إلى وجبة يومية يتم فرضها فرضاً من خلال الإعلام الأمريكي والغربي بطبيعة الحال.
تعاني من الشيخوخة فالجيش الروسي يواجه مقاومة شرسة في أوكرانيا وفقد كثيراً من "الهالة المرعبة" التي كانت تحيط به، بعد مرور شهر من الهجوم الروسي.
الطلب على السلاح الأمريكي ارتفع لمستويات قياسية، وأوروبا عادت للاحتماء بقوة واشنطن العسكرية، وحتى أسعار الطاقة المرتفعة تصب في صالح صناعة النفط الأمريكية، ومآرب أخرى يبدو أن الأمريكيين في طريقهم لتحقيقها.
الفزع يصيب رئيس أوكرانيا
"توقفوا عن إثارة الفزع. إذا قامت الحرب فعلاً لن يتدخل جيش أي دولة أخرى للدفاع عن أوكرانيا".. هكذا انفعل الرئيس الأوكراني في وجه أسئلة الصحفيين المتكررة عن الحرب الروسية.
كان ذلك يوم 28 يناير/كانون الثاني 2022، أي قبل أكثر من شهر من بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا. رسالة فولوديمير زيلينسكي كانت موجهة لبعض الزعماء الغربيين. صحيح أنه لم يحددهم بالاسم، لكنه قال: "الدبلوماسيون مثل قادة السفن، يجب أن يكونوا آخر من يغادر سفينة تغرق، وأوكرانيا ليست تيتانيك". وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تقرر سحب دبلوماسييها من كييف.
الآن وقد اندلعت الحرب بالفعل، كما توقعتها واشنطن أو كما خططت لاندلاعها إن شئنا الدقة، بات واضحاً أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تريد لتلك الحرب نهاية سريعة حتى تحقق مآربها كاملة، بحسب محللين ومراقبين أغلبهم أمريكيون وغربيون.
"هل دفعت الولايات المتحدة بوتين إلى غزو أوكرانيا؟"، هذا السؤال قد يكون أحد أكثر العناوين تداولاً في الصحافة الغربية منذ بدأت روسيا هجومها على أوكرانيا، والذي تسميه موسكو عملية خاصة ويسميه الغرب غزواً، ولهذا السؤال أسبابه ومؤشراته التي كانت واضحة منذ تولى جو بايدن منصبه في يناير/كانون الثاني 2021. فقصة الحرب في أوكرانيا لا يمكن روايتها إلا انطلاقاً من واشنطن.
جو بايدن وإدارة أزمة أوكرانيا
الرئيس الأمريكي جو بايدن هو أكبر من تولى المنصب في البيت الأبيض، وينتمي الرجل إلى حقبة الحرب الباردة وانتهائها بما يراه الأمريكيون انتصاراً ساحقاً على الاتحاد السوفييتي، ثم حقبة شهدت سيطرة واشنطن على النظام العالمي الذي يهيمن عليه قطب أوحد هو بلاد العم سام.
وهذا ما عبر عنه سايمون تيسدول، المعلِّق السياسي المخضرم والكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية، الذي رصد ما يسعى جو بايدن لتحقيقه: "الفكرة الكبرى التي يتحرك في إطارها جو بايدن هي تحالف عالمي دولي بقيادة الولايات المتحدة، يضم الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، في مواجهة الأنظمة السلطوية والزعماء الأقوياء، تقبع في القلب من مشروع استعادة القيادة الأمريكية للعالم".
وكانت المؤشرات الصادرة خلال حملة بايدن الانتخابية والمفردات اللغوية التي تكررت كثيراً مثل "العالم الحر" و"قيادة الولايات المتحدة للعالم" وغيرها، توحي بأن الرئيس الديمقراطي يطمح إلى إعادة ترتيب المسرح السياسي العالمي تحت قيادة أمريكا "قائدة العالم الحر"، بحسب وصفه.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال المنطقي الوحيد في هذه الجزئية: هل أوكرانيا دولة ديمقراطية فعلاً؟ الإجابة على هذا السؤال، وهي بالطبع كلا، تحمل في طياتها تفسير الدور الذي لعبته إدارة جو بايدن في اشتعال الحرب في أوكرانيا. فأوكرانيا واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم، بحسب مؤشرات الفساد الغربية ذاتها، إضافة إلى وجود مستويات مرتفعة من الفقر بين سكانها، وكلا الأمرين يجعلان من المستحيل أن تنضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو.
بيان البيت الأبيض حول لقاء بايدن وزيلينسكي، يوم 7 يونيو/حزيران 2021، ركز بشكل أساسي على "الدعم الأمريكي للرئيس الأوكراني في مكافحة الفساد"، كما كان الإعلام الأمريكي يشن انتقادات لاذعة على إدارة بايدن بسبب تصويرها كييف على أنها دولة "ديمقراطية"، على عكس الحقيقة. وكان تاكر كارلسون، مقدم "توك شو" يحمل اسمه على قناة Fox News الأمريكية، قد سخر حلقة كاملة لقصة ديمقراطية أوكرانيا المزعومة عنوانها "أوكرانيا ليست ديمقراطية".
صحيفة واشنطن بوست نشرت تحليلاً قالت فيه إن كارلسون على خطأ، معتبرة أن أوكرانيا دولة ديمقراطية، فماذا قالت الصحيفة الليبرالية في وصف تلك الديمقراطية؟ "توجد في أوكرانيا كثير من مقومات الديمقراطية: الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة يتم انتخابه عبر الاقتراع المباشر، والبرلمان خليط من الانتخابات الفردية والتمثيل النسبي، ورئيس الوزراء تختاره الأغلبية النيابية، بينما أعضاء المحكمة العليا يتم تعيينهم من جانب الرئيس بعد ترشيحهم من جانب المجلس الأعلى للقضاء".
إذا كانت هذه هي مقومات الديمقراطية من وجهة النظر الأمريكية، فالمقومات نفسها موجودة في روسيا وفي أغلب الدول التي تصنفها واشنطن بوست على أنها ديكتاتوريات، مثل مصر على سبيل المثال. لكن كون أوكرانيا دولة ديمقراطية تتعرض "لغزو روسي" غير مبرر، أصبحت العبارة الأكثر ترديداً على لسان جو بايدن ومسؤولي إدارته، ربما أكثر مما يرددها زيلينسكي نفسه.
وهذه الحقائق تفرض العودة إلى جذور الأزمة الأوكرانية، والتي تعود إلى نهاية الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. فالولايات المتحدة، التي خرجت منتصرة من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، قدمت وعداً لروسيا الاتحادية بألا يتمدد حلف الناتو شرقاً بمقدار "بوصة واحدة"، لكن الحلف العسكري الغربي تمدد شرقا بمقدار 965 كلم، بعد أن ضم جمهوريات تابعة للاتحاد السوفييتي المنهار، وصولاً إلى بولندا، التي كانت مقراً للحلف العسكري الشرقي "حلف وارسو".
نعم، الأزمة الأوكرانية بالأساس أزمة جيوسياسية تتمثل في إصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ألا يدع حلف الناتو يضم كييف إلى عضويته، فذلك يعني وجود قوات وأسلحة أمريكية– في إطار حلف الناتو– على الحدود الروسية مباشرة، فهل كانت أوكرانيا مؤهلة أصلاً للانضمام للحلف العسكري الغربي (الناتو) أو حتى للاتحاد الأوروبي على المدى القصير أو حتى على المدى البعيد؟ بالطبع لا.
لكن بايدن تولى المنصب في ظروف أقل ما توصف به هو أنها ظروف كارثية للولايات المتحدة؛ فحادثة اقتحام أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب للكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني جعلت واشنطن محط سخرية العالم أجمع، بعد أن كانت مصدراً للخوف أو الإبهار، ثم جاءت مشاهد الهرولة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان في أغسطس/آب من نفس العام وعودة حركة طالبان إلى حكم البلاد لتضفي مزيداً من الملح على جرح الكبرياء الأمريكي الذي ينزف بالأساس.
الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين والأوضاع الاقتصادية الصعبة بفعل تداعيات جائحة كورونا، وملف الاتفاق النووي الإيراني، الذي بدا واضحاً أن طهران في موقف تفاوضي أقوى بكثير من موقف الأمريكيين، وتفكير قادة الاتحاد الأوروبي في تأسيس جناح عسكري خاص بالقارة العجوز، كلها أمور اجتمعت خلال عام بايدن الأول في البيت الأبيض، أو عام ضياع الهيبة الأمريكية.
وهنا جاء دور الحرب في أوكرانيا، فمنذ قفزت الأزمة الأوكرانية إلى قمة السياسة الخارجية الأمريكية، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تحولت الأنظار تدريجياً عن مشاكل أمريكا الداخلية وأصبح تركيز إدارة بايدن منصباً بشكل كامل على ما يجري عبر الأطلسي هناك على الحدود الروسية الأوكرانية، على الرغم من أن تلك الحدود كانت على حالها منذ عام 2014، بحسب ما أكده زيلينسكي نفسه يوم 28 يناير/كانون الثاني 2022، أي قبل نحو شهر من بدء الهجوم الروسي.
وبعد أن اشتعلت الحرب، نشرت مجلة Politico الأمريكية تقريراً عنوانه "رئاسة بايدن لم تكن أبداً محمومة كما هي الآن، لكنه لم يكن أكثر ارتياحاً"، رصد كيف اتسم أداء بايدن فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، منذ ما قبل بدء الهجوم الروسي، بالثقة والوضوح والحسم والقدرة على المناورة، وهو ما أدى إلى ارتفاع شعبية الرئيس، التي كانت قد وصلت لمستويات قياسية في التدني منذ صيف العام الماضي.
وبعد أن اشتعلت الحرب، تكشف الخطوات الأمريكية أن إدارة بايدن لا تستعجل إنهاء الحرب على ما يبدو، إذ ذكر مقال نشرته صحيفة The Washington Post الأمريكية عن الأزمة الأوكرانية، أن إدارة بايدن ليست عازمة على إجراء محادثات دبلوماسية جدية مع روسيا، ولا ترى طريقاً واضحاً لإنهاء الأزمة.
عربي بوست