البرهان ومكوّناته المدنية: مَن يشتري الوقت؟
ليست قلّة إنصاف أن تُعقد مقارنة بين ماضي السودان القريب كما حكمه عمر البشير قبيل إسقاطه، وبين راهن السودان كما يُحكِم جنرالات الجيش السوداني قبضاتهم العسكرية والأمنية على مقدراته؛ بزعامة قائد الجيش الانقلابي عبد الفتاح البرهان وشريكه في الهيمنة محمد حمدان دقلو قائد «قوات الدعم السريع»؛ ومن خلفهما حفنة صغيرة من الضباط الأدنى رتبة وسطوة، ولكن ليس البتة أقلّ تعطشاً إلى النفوذ والبطش.
وكي يبدو اليوم أشبه بالبارحة، ليس من الضروري أن يتشابه انقلاب البرهان يوم 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، مع انقلاب البشير أو أيّ انقلاب آخر سبقه، فضلاً عن أيّ انقلاب يُحتمل أن يعقبه إذا بلغت تناقضات قوى الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية ومفارز دقلو نقطة قصوى يطفح عندها الكيل ويتحتّم الانفجار. والتظاهرات التي تعمّ السودان لا تسجّل مرور سنة أولى على انقلاب البرهان فقط، بل تعيد التشديد على تلك المحطات الانقلابية التي أطلقت عهود الاستبداد في البلد.
بعد سنتين فقط من استقلال السودان عن التاج البريطاني، عام 1956، قاد الفريق إبراهيم عبود الانقلاب العسكري الأوّل، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1958؛ أعقبه العقيد جعفر النميري بانقلاب عسكري ثانٍ، في سنة 1969، اقترن أيضاً بالإجهاز على انتفاضة 1964 التي أنهت دكتاتورية عبود؛ وأمّا المشير محمد سوار الذهب فقد كان استثناء قاعدة العسكر، فعهد بالحكم إلى جهة مدنية بعد الإطاحة بنظام النميري. لكنّ تباشير النفط في البلد أسالت لعاب القوى العظمى، وأعادت تأجيج شهية الانقلابات، ووضعت البشير في سدّة الحكم سنة 1989.
وليس ما يُشاع اليوم عن اقتراب العسكر من صيغة اتفاق دستوري مع المكوّن المدني سوى إشارة أخرى على طرازَين من التفاعلات التناحرية داخل سلطة الانقلاب: بين الجيش والأجهزة الأمنية وقوات دقلو، من جهة أولى؛ وعند هؤلاء جميعاً إذْ تدنيهم أحوال البلد الاقتصادية والمعيشية من حافة مواجهات التصفية والتصفية المضادة أو التفاهمات الأقرب إلى صفقات تواطؤية، من جهة ثانية. وإذا ظلت تفاصيل الاتفاق المزعوم بين العسكر والمدنيين طيّ الكتمان، أو التكتم المتبادل بالأحرى، فإنّ عناصرها الكبرى الجوهرية لن تأتي بجديد دراماتيكي في أحجام التنازلات بين الطرفين؛ خاصة تلك الضمانات التي يشترطها الجنرالات، حول: 1) إعفائهم من المساءلة القضائية عن مخالفات الماضي، في أيام البشير كما في أيام البرهان؛ و2) تمكينهم من قبضة عسكرية وأمنية مستقلة، لا تقصيهم عن آلة القرار وصناعته؛ و3) إبقاء التشكيلات العسكرية الخاصة، و»قوات الدعم السريع» تحديداً، بمنأى عن الدمج في بنية الجيش أو الخضوع لأي شكل آخر ينتهي إلى التفكيك…
وحين وافق جنرالات السودان على تسليم رئاسة الحكومة إلى عبد الله حمدوك، والإيهام بأن السلطة باتت مدنية، كانت الضغوطات الخارجية الدولية والأفريقية ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي هي محرّك القرار؛ الأمر الذي أحسن العسكر المناورة فيه وشراء الوقت ريثما تُستكمل ترتيبات البيت العسكري والأمني الداخلي، وينفض البرهان وشركاؤه يدهم من ترئيس حمدوك. اليوم تُستعاد مناخات مماثلة، فنقرأ تغريدة من وزير الخارجية الأمريكي يقول فيها إن الوقت قد حان «لإنهاء الحكم العسكري»؛ وتحث 13 دولة، صحبة الاتحاد الأوروبي والآلية الثلاثية، على تشكيل حكومة انتقالية يقودها مدنيون. ولا عجب، استطراداً، أن يسرّب الجنرالات فتات معلومات عن قرب التوصل إلى اتفاق مع المكوّن المدني.
وهذا، على وجه التحديد، هو الشرك الذي يتوجب على القوى المدنية أن تتفادى الوقوع فيه، لجهة تكرار الأخطاء ذاتها من جانب المدنيين، أو إعادة إنتاج الخيارات القاصرة التي أفقدت الشارع الشعبي زخماً ثميناً وأثخنته بالجراح والانكسارات والتضحيات؛ كما أكسبت العسكر أكثر من جولة واحدة، ولا فرق أنّ إخراجها كان انقلابياً، أو أنّ سيناريوهاتها تعيد ترسيم التناظرات بين البشير والبرهان.