بائع الفستق ابو احمد النيجيري..
المدينة نيوز ـ خاص ـ كتب محرر الشؤون المحلية - كان يشبه تمثالا من القهوة وهو منتصب بقامته الفارعة على مدخل سوق الصاغة، حتى صار ابو احمد واحدا من معالم شارع فيصل، بل وسط البلد على امتداد مساحته.
على مدى ستين عاما، ظل هذا النيجيري الذي اعتمر الشماغ الاردني الاحمر، وفيا لمهنته الاولى، تلك المهنة التي تجاوزت اهتمام البسطاء من امثاله لينتقل تاثيرها الى مختلف النخب والشرائح الاخرى.
ستون عاما وابو احمد يدير ظهره الى بريق الذهب المنبعث من جوار عربته البسيطة، مكتفيا بما يدخل جيبه من قروش متواضعة تعينه في الحصول على لقمة الحلال .
لو قدر لوسط البلد ان يتحدث، ولو تم استنطاق شارع فيصل، لسمعنا كثيرا عن سيرة هذا الرجل الذي اصبح توصيفه "بائع الفستق النيجيري "، لكن الحاج ابو احمد ظل طوال سنوات عمره التي امتدت الى الثمانين صامتا، لا يتحدث الا بميزان، مستبدلا كلماته بابتسامة لم تفارق ثغره، حتى تاكد زبائنه ان قلب الرجل عامر بالقناعة.
محمصه البدائي ، نجح في منافسة التكنولوجيا الحديثة، وظل لهيب خشب السحاحير قادرا على اجتذاب مزيد من الزبائن لتذوق الفستق والبزر الذي برع هذا النيجيري في صناعته، وهو يملك مذاقا خاصا لا توفره ارقى المحامص الحديثة.
ربما لم يكن قد سمع باسم عمان، حين رافق خالته ذات يوم من عام 1946، مغادرا نيروبي في طريقهما الى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، لكن وفاة خالته في السودان لم تمنع الشاب ذا السبعة عشر ربيعا من اكمال مسيرته الى مصر ومنها الى فلسطين، حيث وجد نفسه عام 1948 يسير مع جموع اللاجئين في الطريق الى عمان التي قضى فيها ما يزيد على الستين عاما .
اسمه عمر محمد حمزة النيروبي، لكن زبائنه عرفوه باسم ابي احمد، وبعضهم كان يضيف كلمة الحاج الى اسم الرجل الذي لم يعد غريبا في مدينة فتحت ذراعيها لاستقبال الاشقاء والاصدقاء دائما، وصار النيجيري القادم مع جموع اللاجئين الفلسطينيين في عام النكبة اردنيا ، وابا لعائلة ، قوامها اربعة ابناء وبنتان .
ستون عاما ظل فيها ابو احمد ملتصقا بقاع المدينة، وكثيرا ما كان يقطع المسافة بين منزله العتيق في جبل الجوفة الى حيث يستريح محمصه البدائي في مدخل سوق الصاغة، سيرا على الاقدام، ليرتبط بعلاقة من نوع مختلف مع عمان العتيقة الذي صار بائع الفستق جزءا من نبضها الشعبي.
السيارة التي صدمته على رصيف ليس بعيدا عن رائحة الفستق والبزر المنبعثة من محمصه البدائي، لم تكن تعرف انها تصدم جسدا نحيلا التحم بحياة عمان، او تصدم عمودا من اعمدة تاريخها الانساني، لكن ابا احمد الذي اقعدته تلك الحادثة عن ممارسة مهنته، لم يطق العيش بعيدا عن رائحة الفستق ومحبة زبائنه، فكان يصر على المرور في الشارع نفسه، وهو داخل سيارة، لكي لا تغادر انفه رائحة التاريخ المنبعثة من زوايا الشوارع العتيقة التي ادمن لغتها، واعطته شيئا من اسرارها .
لم يكن زبائنه من بسطاء الناس فقط، فقد عقدت الدهشة في احد الايام لسان النيجيري وهو يجد امامه الملكة رانيا العبدالله تطلب شيئا من الفستق ذي النكهة المختلفة، ومع انه لم يتحدث مع الملكة كثيرا، الا ان ابتسامته لم تغادر محياه، وصارت تلك اللحظة مادة للحديث الحميم، باعتبارها اللحظة الاهم في حياته.
توفي هذا النيجيري الذي لم يعد غريبا مطلع عام 2010، بعد ان حصل على الجنسية الاردنية، لكن عمان فقدت برحيله شيئا من سماتها وبعضا من ملامحها المميزة .