"الستون متقاعدا" والتاريخ الذي لا يرحم!
قبل بضعة أيام قامت الدنيا ولم تقعد بعد أن قام الكاتب الأردني سامر أبو لبدة بنشر مقالة بعنوان"مملكة الأبارتهايد الهاشمية" في الصحيفة الصهيونية المعروفة"جروسالم بوست", وأهم ما جاء فيها هو مطالبته للمجتمع الدولي بالتدخل لوقف سياسة الفصل العنصري ضد الأردنيين من أصل فلسطيني، ويحذر من تنامي التوتر العرقي في الأردن, والذي تمثل بوضوح في سحب الجنسية الأردنية من قرابة ثلاثة الاف مواطن أردني من أصول فلسطينية.
وبعد يومين من نشره لمقالته هذه خرج علينا متقاعدون عسكريون أردنيون باصدار بيان يدعون فيه بأنهم يحاربون فكرة اعتبار الأردن الوطن البديل للفلسطينيين والدفاع عن القضية الفلسطينية, ولكن من يقرأ بيانهم بتعمق, فانه يدرك بأن كل ما يدعون اليه هو تهجير الأردنيين من أصل فلسطيني وابعادهم عن الأردن..انها نظرة اقليمية بغيظة تدعو في نهاية الأمر الى طرد أكثر من نصف الأردنيين من وطنهم، وكأن القوانين الأردنية والدولية والأخلاقية والإنسانية تسمح بمجزرة على هذه الدرجة من الحقد والكراهية والبشاعة والرخص, ولا فرق بين هذا التهجير و"الترانزفير" الذي بدأ الصهاينة بتنفيذه بحق أكثر من سبعين الف فلسطيني يقيمون في الضفة الغربية المحتلة. فيما يخص مقالة أبو لبدة, فقد اتهمه البعض بأنه مارق وقام"بعض اليد" التي أعانته ورعته ومنحته المواطنة الأردنية, ورأيي الشخصي انه تجاوز حدوده في نشر مقاله في صحيفة صهيونية حاقدة, ولكن وللانصاف نقول: لو أراد هذا الكاتب نشر مقاله في صحيفة أردنية, هل يا ترى سيتم النشر وبغض النظر اذا كنا نتفق معه أو نختلف؟, ومن هنا نطالب وسائل الاعلام الأردنية أن ترفع من سقف حرياتها قبل ان تنتقد من يلجأ للنشر في صحف عدوة, وحتى لا يقوم بعض السطحيين بفهمي بصورة خاطئة ومنقوصة فانني أرفض جملة وتفصيلا قيام البعض بالاستقواء بصحافة العدو على وطنهم وكيانهم وشعبهم.
أختلف مع"أبو لبدة" في بعض النقاط وصورة طرحها وأتفق معه في أمور أخرى واضحة كوضوح الشمس, ولا داعي للخوض بتفاصيلها. والى"شلة الستين متقاعدا" أقول ما قاله الكاتب الأردني المناضل خالد محادين في رده عليهم"بيان الستين..محاولة بشعة لتجميل الإقليمي":"هل بلغت التفاهة والأحقاد والإقليمية والتآمر على وحدة الشعب هذا الحد من العبث بأغلى وأنبل ما لدينا وهو وحدتنا الوطنية والأسرة الأردنية الواحدة والأردنيون من شتى المنابت والأصول؟".
كنا نتوقع من هؤلاء العسكريين أن يتعاملوا مع ما طرحوه بموضوعية وعقلانية, ولكن ما العمل, اذا بلغت الكراهية والحقد الى هذا الحد؟, انه حقد أعمى لا مبرر له. وكذلك كنا نتوقع ممن هاجموا أبو لبدة بأن يقوموا بمهاجمة هؤلاء المتقاعدين الذين أساءوا للأردن ومواطنيه بكافة شرائحهم ووحدته الوطنية.
ولكي نكون صادقين مع أنفسنا ولكي لا يتهمنا البعض بالانحياز لطرف على حساب طرف اخر, وقضية على حساب قضية أخرى, فيتوجب علينا أن نقوم بالنظر من جديد الى تعريف المواطنة من باب التذكير..فذكر ان نفعت الذكرى:
يقصد بالمواطنة العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون أدنى تمييز قائم على أي معايير تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري. ومن المهم هنا التأكيد على أن المواطنة ليست فقط مجموعة من النصوص والمواد القانونية التي تثبت مجموعة من الحقوق لأعضاء جماعة معينة كما قد يعكسه دستور هذه الجماعة وقوانينها، بل يشترط أيضا وعي الإنسان داخل هذه الجماعة بأنه مواطن أصيل في بلاده وليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين دون أن يشارك في صنع القرارات داخل هذا النظام، فالوعي بالمواطنة يعتبر نقطة البدء الأساسية في تشكيل نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى بلاده وإلى شركائه في صفة المواطنة، وبالتالي فممارسة المواطنة كنشاط داخل المجتمع لا تتم بشكل عرضي أو مرحلي كما هو الحال بالنسبة للانتخابات بل هي عملية تتم بشكل منتظم ومتواصل وبطرق صغيرة وعديدة وبتفاصيل لا تعد، هي جزء من نسيج حياتنا اليومية، لهذا فالوعي بالمواطنة وممارستها يتطلب التربية على ثقافة المواطنة بكل ما تحمله من قيم وما تحتاجه من مهارات.
ومن هنا نقول للمتقاعدين الذين جانبهم الصواب والرشد وضلوا السراط المستقيم, ما قاله دولة رئيس الوزراء الأردني الأسبق أحمد عبيدات في مقاله القيم"كيف نواجه فكرة الوطن البديل":(لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تفهم العلاقة الأردنية الفلسطينية أو أن تستغل أي حالة فيها من أي طرف وتحت أي ظرف لتصبح مدخلاً للانتقاص من حقوق المواطنة وواجباتها، أو سبباً لإضعاف الدولة الأردنية من الداخل، وخلق الظروف التي تؤدي إلى تمرير المشروع الصهيوني لتحويل الأردن إلى بديل عن فلسطين. وبهذا المفهوم يصبح الالتزام بأمن الأردن الوطني والقومي مسؤولية تقع على عاتق المواطنين جميعاً، مثلما يؤكد ذلك نضالهم وتضحياتهم الموصولة في سبيل تحرير فلسطين والحفاظ على الأردن وعروبته)..انها كلمات ناطقة معبرة, نتمنى من المتقاعدين ومن يؤيدهم أن يتعظوا منها ويعملوا بها.
وانطلاقاً من كل ما أسلفت, فإنني أوجهها نصيحة مجانية لكل من تسول له نفسه بالتطاول على الفلسطينيين وقضيتهم ومن اواهم من الأردنيين الشرفاء:الوحدة الوطنية الأردنية هي الصخرة الصلبة التي تتحطم عندها كل الصخور, وهي التي تقوم عليها العلاقة الوثيقة بين جميع المواطنين في الدولة الأردنية. والى هؤلاء المتقاعدين ومن يدور في فلكهم, أقول:لماذا لا تتخذوا من الدكتور يعقوب زيادين مثالا يحتذى به؟, فقد وجد هذا الطبيب الشاب عند تخرّجه عملاً في مستشفى"أوغستا فيكتوريا" أو"المطلع" في القدس، فضمن من خلاله مأوى ومصدر دخل..أضرب مع كامل أطباء المستشفى وممرضيه عن العمل، إثر قرار وكالة الغوث بإغلاق المستشفى، ونجح في النهاية بالتصدي للقرار. آنذاك، قابل الدكتور زيادين مندوب وكالة الغوث الأميركي"الملوّن"، فنصحه:"عد إلى أميركا ودافع عن حقوق الملوّنين، عوضاً عن إلحاق الأذى بضحايا العدوان الأميركي الصهيوني".لقد ازدادت شعبيته بين المقدسيين بعد التصدي لقرار إغلاق المستشفى، حتى جاءت انتخابات 1956 وفاز فيها عن مقعد القدس المسيحي رغم أنه من مواليد مدينة الكرك. لقد كانت اللحمة بين الشعبين الأردني والفلسطيني مثالا يحتذى به, وقد ظهر هذا الأمر جليا على أرض الواقع, وكبار السن يشهدون ويقرون به, وما شهادة الدكتور زيادين لهي أكبر دليل على ذلك, وعلى من يريد التأكد من هذه الحقيقة فعليه الرجوع لكتاب"البدايات" للدكتور زيادين, وفي مقدمته يطول حديث الكاتب عن تجربة الشعبين الأردني والفلسطيني، النضالية، لتكون رافداً قوياً من روافد نضال حركة التحرر الوطني العربية، من أجل دحر الثالوث الإمبريالي الصهيوني الرجعي، ومن أجل أن ترتفع خفاقة عالية رايات الحرية والديمقراطية والكرامة فوق كل أرض عربية. ان هذا الكتاب يعتبر وثيقة من أهم وثائق التاريخ الوطني في الأردن، نتعرف من خلاله على المجرى المعقد الصعب الذي سلكته الحركة الوطنية الأردنية خلال سنوات طويلة دفاعاً عن الكرامة الوطنية لجماهير الشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني، بحيث لم تبخل الألوف من خيرة أبناء الشعبين عن بذل دمائها، لتظل إرادة الشعب أقوى من كل الإرادات، ولتبقى شعارات العداء للإمبريالية والصهيونية والرجعية، خفاقة عالية تحف بها دماء الشهداء وتضحيات المناضلين. تحية للدكتور يعقوب زيادين ولرفاقه الذين شاركوه مرارة السجون والمعتقلات، وما زالوا على الدرب سائرين. وفي الختام أقول بأن الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين, وانني على ثقة تامة بأن الفلسطينيين المشتتين في كافة بقاع الأرض بما فيهم المتواجدين في الأردن سيعودون الى قراهم ومدنهم في فلسطين بعد تحريرها من بحرها الى نهرها, وان هذا اليوم ات لا محالة. والى"الستين متقاعدا" أقول:عودوا للتاريخ فانه لا يرحم, لعل الله يرحمكم.