نجاح الثنائي الرئاسي حيث فشل إميل لحود
كشف الحكم الأخير الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى أي مدى لم يعد من وجود لدولة لبنانيّة. كان الحكم واضحا عندما سمّى عنصرين آخرين من “حزب الله”، غير سليم عياش، تورطا أيضا في تنفيذ جريمة اغتيال رفيق الحريري. لم يعد هناك أدنى شكّ في ضوء ما استندت إليه المحكمة الدوليّة التي أنشئت بقرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى أي حدّ تبدو إيران، من خلال “حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري”، متورطة في الجريمة بغطاء من النظام السوري.
كشفت هذا الغطاء المحكمة نفسها التي عرضت سابقا تفاصيل التنسيق بين منفذي الجريمة مع دمشق، في مرحلة الإعداد لعمليّة تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني في الرابع عشر من شباط – فبراير من العام 2005.
يؤكّد غياب الدولة اللبنانية عدم صدور أي ردّ فعل على حكم المحكمة الدولية التي احتاجت إلى سنوات طويلة للوصول إلى ما وصلت إليه وتحديد الجهة التي كانت وراء الجريمة. تبدو الدولة اللبنانيّة، بكل مؤسساتها، بعيدة كلّيا عن أهمّ حدث لبناني في السنوات العشرين الأخيرة. إذا كان ذلك يظهر شيئا، فهو يظهر أن لبنان صار تحت الاحتلال الإيراني لا أكثر. كلّ ما في الأمر أن إيران حققت هدفها من وراء الجريمة التي استخدمت النظام السوري في تغطيتها بعدما أدركت مدى حقد بشّار الأسد على رفيق الحريري.
كلما مرّ الوقت، كلما يظهر من تسلسل الأحداث كم أنّ جريمة اغتيال رفيق الحريري مرتبطة بالتطورات الإقليميّة، خصوصا بما حدث في العراق. كان مطلوبا، في ضوء سقوط العراق في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة” إحكام السيطرة الإيرانيّة على لبنان كي يبقى البلد “ساحة” لها.
في السنوات التي سبقت اغتيال رفيق الحريري، استعاد لبنان، وإن نسبيا، وضعه على خارطة الشرق الأوسط، كما استعادت بيروت دورها على الصعيد الإقليمي. في الوقت ذاته، بدأت الضغوط الدوليّة من أجل انسحاب عسكري سوري من لبنان، خصوصا مع صدور القرار الرقم 1559 عن مجلس الأمن.
استطاعت إيران بتفاهم مع النظام السوري قلب الوضع اللبناني، مستفيدة من وجود إميل لحّود في موقع رئيس الجمهوريّة. من يتذكّر حماسة إميل لحّود لتنظيف مسرح الجريمة في بيروت “كي تعود الناس إلى أشغالها”؟ من يتذكّر وصفه تفجير رفيق الحريري بـ”الرذالة” داعيا إلى تجاوز الحدث… وكأن شيئا لم يكن وكأن اغتيال شخص مثل رفيق الحريري مجرّد حادث سير!
ما لم يتحقّق في عهد إميل لحود، الذي لم يستطع منع قيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تحقّق في عهد الثنائي ميشال عون – جبران باسيل. ليست صدفة مسارعة رئيس الجمهوريّة، مباشرة بعد تفجير مرفأ بيروت، في الرابع من آب – أغسطس 2020 إلى قطع الطريق على أي تحقيق دولي من أجل الحؤول دون معرفة الحقيقة يوما.
يؤكّد الصمت اللبناني الحالي حيال الحكم الصادر عن المحكمة الدوليّة أن القرار اللبناني صار مصادرا. لم يعد مسموحا أن يكون في لبنان، على الصعيد الرسمي، من يقول كلمة صواب لا في حقّ ما ارتكبه “حزب الله” أو غيره. من يحتاج إلى دليل على ذلك، يستطيع الذهاب إلى الصمت الرسمي تجاه القضم السوري – الروسي (عبر شركات روسيّة) لحقوق لبنان في مياهه في المنطقة الشمالية، بدل المطالبة بترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة – السوريّة، على غرار ما يجب أن يحصل مع إسرائيل في الجنوب.
يدعو ما يجري على أرض لبنان إلى التفكير مليّا مرّة أخرى بأن لبنان الذي تأثر بالزلزال العراقي الذي تسببت به إدارة بوش الابن ليس سوى تعبير بسيط عن حقيقة ما يدور على صعيد المنطقة كلّها. كان تسليم العراق إلى إيران في العام 2003 تطورا غيّر معالم الشرق الأوسط والتوازنات فيه. ما كان لإيران وراثة الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان لولا وضع أميركا العراق في تصرّفها. ما كان لإيران الذهاب إلى حد الانتهاء من رفيق الحريري، لولا شعورها بأنّ ليس في العالم من يستطيع محاسبتها من جهة وأن فلاديمير بوتين سيعمل من أجل تفادي تسمية المحكمة الدولية دولة أو حزبا عندما تصدر حكمها في الجريمة من جهة أخرى.
ليس ما يشير إلى أنّ لبنان سيخرج قريبا من كابوس الاحتلال الإيراني. استطاعت “الجمهوريّة الإسلاميّة” تغيير طبيعة البلد كلّيا وإسكات أي صوت مقاوم للاحتلال الإيراني. لا يدلّ على ذلك أكثر من الجهود التي يبذلها معظم النواب التغييرين الذين دخلوا البرلمان بعد انتخابات 15 أيّار – مايو الماضي. هؤلاء في منافسة في ما بينهم من أجل استرضاء “المقاومة” و”حزب الله” بالذات. على سبيل المثال وليس الحصر، يتحدّث ملحم خلف نقيب المحامين السابق والنائب الحالي عن “العدو الإسرائيلي الغاصب” في سياق مطالبته باعتماد لبنان للخط الرقم 29 في مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل. يبدو ملحم خلف كأنّه يقدّم امتحانا شفهيا أمام حسن نصرالله.
لم تعد للبنان الذي عرفناه علاقة بلبنان الحالي حيث يمرّ الحكم الجديد الصادر عن المحكمة الدوليّة مرور الكرام. بات مطلوبا من لبنان الذي انهار كلّ شيء فيه أن ينسى أنّه كان يوما بلدا مزدهرا. على لبنان أن ينسى خصوصا أنّ رفيق الحريري دفع ثمن إعادة الحياة إلى بيروت بعد حرب داخلية، كانت حربا بين اللبنانيين وحربا بين الآخرين في لبنان. في أثناء تلك الحرب، كانت مهمة ألوية موالية للنظام السوري تنتمي إلى “جيش التحرير الفلسطيني” وضع خطوط تماس بين المسيحيين والمسلمين في وسط العاصمة اللبنانيّة كي لا تقوم لها قيامة يوما.
ما عجز عنه إميل لحود نجح فيه الثنائي ميشال عون – جبران باسيل. لبنان صامت صمت القبور بعد ذهاب المحكمة الدولية خطوة أخرى إلى أمام في تحديد من قتل رفيق الحريري… ومن قتل الحلم باستعادة لبنان.
العرب اللندنية