دستور قيس سعيد: نحو ديكتاتورية قيصرية مستدامة؟
استُهِلَّ مشروع الدستور الذي طرحه الرئيس التونسي قيس سعيد في آخر ليلة من شهر يونيو /حزيران من هذا العام، بوصف ما قام به الرجل في أواخر شهر يوليو/ تموز من العام الماضي من تعليق لعمل البرلمان، وما أعقب ذلك من ضرب للمؤسسات يمنة ويسرى، على أنه «تصحيح مسار الثورة». بل يزيد المشروع – أو لنقل يضيف سعيد لا فرق هنا – ويعتبر ذلك بمثابة «تصحيح مسار التاريخ».
الغرض الأول للاستفتاء المزمع أواخر هذا الشهر على هذه المسودة يتعلّق إذاً بالتصديق على هذه السردية. وهي تقفز فوق وقائع غير ثانوية أبداً، منها أن الرئيس سعيد استخدم ما لم يكن في جعبته من مواد وصلاحيات طيلة العام الذي أعقب قرار تعليقه للسلطة التشريعية ولجوئه الى الحكم بالمراسيم ووصولا الى حله البرلمان كما المجلس الأعلى للقضاء.
فالفصل 80 من دستور 2014 لا يستقيم فيه إعلان الحالة الاستثنائية قبل تشكيل المحكمة الدستورية، وهي لم تتشكل، مثلما أن تعديل دستور 2014 أو الخروج عنه غير ممكن من داخل آليته من دون محكمة دستورية.
زد على أنه، هذه المرة لا يأتي مشروع الدستور مصاغاً من لدن جمعية تأسيسية لاقتراحه من ثم على عموم المواطنين، بل هو يتنزل عليهم انطلاقاً من الفرد الحاكم الذي يخرج عليهم بمقدمة له لا تنفك تردد في مفتتح كل فقرة: «نحن الشعب صاحب السيادة». وكم من «نحن» في هذه الدنيا إن هي سوى تمغيطٌ للأنا.
فذلكة سعيد وراء كل هذا أن «الشكل» المنبثق عن دستور 2014 الذي نعته غير مرّة بأنّه يعجّ بالأقفال وغير مناسب ولا هو ملائم لتونس، قد انفصل عن كل مضمون «يمت بذي صلة للسيادتين الشعبية والوطنية. علماً أنه في كنف هذا الدستور أتيحت الانتخابات الرئاسية التنافسية الحرة التي أتاحت وصول سعيد الى الرئاسة، كما أنه في الفترة السابقة على وصوله كانت الأحزاب المتباينة، الإسلامية منها والأنتي إسلامية على حد سواء، تنسب كل منها تحقق الدستور إلى مجهودها هي وحرصها هي.
بالتالي، يقوم تصور سعيد، وهو الأستاذ الجامعي الذي رأس في السابق الجمعية التونسية للقانون الدستوري على تصور يعتبر أنه حين ينفصل الشكل عن المضمون في دستور ما على نحو حاد ولا رجعة فيه، يمكن التجاوز على الشكل بالتي هي أحسن. بيد أن سعيد، أغلب الظن، لا يوصف هذا التجاوز بالمصطلح الدقيق له. هذا بخلاف ما كتبه الجنرال شارل ديغول في مذكراته حول أسلوب توليه المرحلة الانتقالية عام 1958 بين الجمهورية الرابعة التي انهارت مؤسساتها وبين الجمهورية الخامسة التي عكف على تأسيسها. تكلم ديغول عن تلك الفترة فوصفها بأنها كانت «ديكتاتورية مؤقتة مارستها في خضم العاصفة» وتابع بأنه لم يكن ليتوانى عن اطالتها أو عن استئنافها لو احتاج الأمر. هل بمتسع قيس سعيد أن يصف هو أيضاً ما يقوم به منذ يوليو – تموز الماضي بأنه نظام ديكتاتورية انتقالية موقتة؟ أقل الإيمان، عدم تسمية الحال الديكتاتورية باسمها يشي بالنية الى جعلها أكثر من موقتة. مواد عديدة في مسودة الدستور المطروحة حالياً تعطي أسانيد مقلقة لذلك.
مثلما لا يعرف قيس سعيد ما يقوم به على أنه «ديكتاتورية موقتة» على منوال ما جاهر به شخص من قماشة ديغول، فهو، في مشروعه الحالي لا يأتي على ذكر مفردة ديموقراطية في التوطئة الا بشكل اشتراطي «ان الديمقراطية الحقيقية لن تنجح إلا إذا كانت الديمقراطية السياسية مشفوعة بديمقراطية اقتصادية واجتماعية». بيد أن ثمة فارقا بين الخوض في هذا الربط بين الديمقراطيتين السياسية والاقتصادية الاجتماعية من زاوية العلم السياسي، وبين كيفية تسجيل ذلك بشكل اشتراطي في مقدمة مشروع دستور، خاصة عندما تتسم مواد هذا الدستور بوضعها الأولوية لعدم القدرة على تعطيل سلطة اتخاذ القرارات من رأس السلطة التنفيذية، على حساب خارطة التوازنات والضوابط التي تقرأ بها وتوزن بها الدساتير.
يمكن أن يقول قائل إن الدستور الأمريكي أيضاً لا يأتي على ذكر الديمقراطية في أي جزء منه. ففي زمن صياغته كانت سمعة الديمقراطية لا تزال سيئة في معشر الآباء المؤسسين للاستقلال الأمريكي، وتحيل الى الفوضى، في حين استوحى المؤسسون نماذجهم من المؤسسات الرومانية، ومن العهد القديم، وأسسوا انطلاقاً من ذلك للتوازي بين السلطات الدستورية في ظل نظام رئاسي وفدرالي. في النموذج الأمريكي، تنبثق كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية عن المصدر الشعبي بالتوازي، وليس الواحدة من الأخرى.
للرئيس صلاحيات قوية، وللكونغرس صلاحيات قوية، الا انه لا يمكن للرئيس حل الكونغرس. هذا في مقابل النظام البرلماني، حيث تنبثق السلطة التنفيذية جزئيا أو كليا من السلطة التشريعية وتراقب الأخيرة عمل الأولى، في حين يحفظ دائما حيز لحل البرلمان قبل موعده، واجراء انتخابات مبكرة.
النظام الأولترا رئاسي الذي يطرحه سعيد اليوم للتصويت عليه يختلف عن النظام الأمريكي. فالرئيس في المسودة الحالية يمكنه أن يحل البرلمان، لكن في المقابل البرلمان لا يسعه مراقبة عمل الحكومة ولا شورة له عند توليته. البرلمان هو بالأحرى مجلس استشاري في جمهورية سعيد الجديدة. لا يسع هذا البرلمان، الموزع إذا صدقت المسودة على غرفتين، حجب الثقة عن الحكومة إلا في حالة محصورة، إذا وافقت أكثرية ثلثي البرلمان بمجلسيه على عريضة لوم للحكومة حازت على موافقة رئيس الجمهورية، أضف الى التنصيص على وجوب ان يسوغ ذلك بمخالفة الحكومة السياسة العامة للدولة، وبالتالي فصل أي تأثير لنتائج انتخابات تشريعية مثلا على طبيعة التشكيلة الحكومية. هذه يختارها الرئيس.
يحرص مؤيدو سعيد على بث أن هذا الدستور الرئاسوي المغالي – وهو في الواقع عملية دسترة لسمة ديكتاتورية للرئاسة – هو ضروري لمواجهة الإسلاميين وكسر شوكتهم، دون أي جواب على احتمال أن يأكل السم طابخه. ماذا إذا وصل ذات يوم، إسلامي الى الرئاسة بموجب هكذا دستور مهمشة فيه قواعد التوازن والضوابط التي هي في أساس فكرة كتابة الدساتير؟
عندما لم تكن مفردة ديكتاتورية قد اكتسبت مضمونا سلبيا قطعيا بعد، كتب عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبير يصف ما لرئيس الولايات المتحدة من صلاحيات بأنها تجعله في مقام الديكتاتور، على رأس سلطة تنفيذية قوية ومهابة. كان ذلك في مقال له من عام 1917.
اعتبره قرين نموذج الديكتاتور القيصري ـ بالمدلول الروماني ـ الذي يفرض نفسه بثقة الجماهير، ثم استدراك ماكس فيبير بأن ما يحمي هذه الديكتاتورية القيصرية للرئيس الأمريكي من نفسها هي الصلاحيات المعطاة للكونغرس والقضاء. كل ما هو سلطات مقابلة له. وشدد على أن وجود السلطات المقابلة للرئيس الواسع الصلاحيات ضرورية اذا ما أريد العدول سلماً عن السلطة المعطاة لمن وصفه في هذا النموذج بالديكتاتور.
مقارنة بما يعرضه سعيد على الناس نحن أمام نموذج الديكتاتور القيصري انما من دون سلطات ضامنة للعبة الدستورية وللحريات في مقابله.
بل من دون تكريس الفصل بين السلطات. اذ يتكلم المشروع الحالي عن وظائف تشريعية وتنفيذية وقضائية في الدولة وليس عن سلطات. وفي هذا فرق كبير. بالتوازي، اذ عدل الدستور عن التنصيص على الإسلام كدين للدولة، مبقياً على اشتراط دين رئيس الدولة في بلد سواده الأعظم من المسلمين، إلا أنه ابتدع صيغة غريبة، مفادها أن «على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية». بمعنى آخر تأميم للإسلام بالإضافة الى تأميم الحرية!
القدس العربي