الدستور التونسي الجديد
واهم من يعتقد بأن نتائج الاستطلاع حول الدستور التونسي الذي قدمه الرئيس قيس سعيد سوف يفشل، حتى لو جاءت نتيجة التصويت في غير صالحه، ونقول ذلك لأن هذا الدستور لم يأت من فراغ ، وليس نتيجة ارهاصات سياسية واجتماعية واقتصادية عاشتها تونس منذ أكثر من عقد من الزمان ، بل لأن هذا الدستور هو المسموح به الآن ، وهو المطلوب عربيا ودوليا ، وخاصة من قبل الدول المؤثرة في هذا البلد .
لا ينكر عاقل أن الشعب التونسي غاضب من النخب السياسية التي تولت السلطة طول السنوات الفائتة بعد الثورة ولم تقدم شيئا سوى المزيد من التنابز والتناحر والتصارع على المناصب والنفوذ ، ما جعل التونسيين يجدون في قيس اسعيد حلا تصحيحيا لا بد منه لحلحلة استعصاء كل شيء ، ليس بدءا من رغيف الخبز ولا انتهاء بحبة الدواء والفقر والبطالة وعجز الدولة عن توفير الرواتب ، بل إن خطوة الرئيس في حل البرلمان والمجلس القضائي ولجنة الإنتخابات وغيرها من الخطوات " الأستراتيجية " وجدت ترحيبا متحيزا وصاخبا ومتحمسا لدى قطاع واسع من التونسيين ، إلا أن ذلك لم يتم إلا ضمن خطة ثبت أنها كانت محكمة ، وتم التمهيد لها تمهيدا في أمور دبرت بليل ، للوصول إلى هذه النقطة الفارقة في حياة التونسيين بعامة .
فقد تركت الدولة التونسية الحاكمة ، ونقصد بها الجيش والأمن الأمور منفلتة إلى هذا المستوى طوال السنوات الماضية ليصل المواطن التونسي إلى هنا ، إلى حيث ترحيبه بالتغيير ، ولكن أي تغيير ؟؟ .
إنها الثورة المضادة التي قلبت كل منجزات ثورة الياسمين رأسا على عقب ، وبات التخلص من هذه الثورة مطلبا يستوجب التمهيد المحسوب ، المتمثل بترك القوى السياسية التي امتطت الثورة الشعبية النقية تحكم البلاد مقدمة لاصطدامها بالواقع ، ومن ثم سقوطها ، وهكذا كان ، حيث وصل التونسيون إلى درجة " الكفر " بكل القوى السياسية الموجودة على الساحة ، فاختاروا رئيسا من خارج هذه المنظومة ، وبعد ان استقر الأمر لقيس اسعيد من خلال الدعم الأجنبي والعربي الرسمي طلب منه تنفيذ الخطوة التالية وهي الإستحقاق الأهم الهادف إلى " التغيير الكلي " وهذا ما يحصل الآن ، ومخطئ من يعتقد بأن قيس اسعيد هو الذي كتب دستورا لتونس ، بل إنه تلقاه جاهزا بدليل موقف اللجنة التي استند اليها واختارها لكتابة الدستور الجديد ، والتي خرجت للرأي العام لتقول بأن هذا الدستور المعروض على الأستفتاء الشعبي ليس هو الدستور الذي انتهت اليه اللجنة ولا يشبهه اصلا ، بعد أن وضع الدستور الجديد كافة الصلاحيات بيد الرئيس بما يشبه النظام الرئاسي ، ولكن يختلف عنه في أن النظام الرئاسي تتنازعه البرلمانات المنتخبة وغيرها ، وهو ما لا يتوفر في تونس التي حجم مشروع دستورها صلاحيات اي سلطة في الدولة بما فيها البرلمان ، ووضعها كلها بيد الرئيس بدون اي حسيب ولا رقيب ، بل إن نصا في مسودة الدستور تقول صراحة بأنه لا يجوز محاسبة الرئيس على أي خطأ يرتكبه .. أي أنه دستور يقدس الحاكم الفرد المطلق ، ويجعل من بقية القوى مجرد أدوات ، بالإمكان تغييرها بطرفة عين من الرئيس العتيد .
كما قلنا ، فإن معاقبة الشعب التونسي الذي فتح الباب للثورات العربية كان مطلوبا ، وها نجن نرى الثورة المضادة في تونس تسيطر على كل شيء بمساعدة الأدوات القديمة إياها وعلى رأسها الاتحاد التونسي للشغل ، الذراع النقابي الأقوى الذي يقف متفرجا على ما يجري ، بينما لا يدري أحد إلى أين يمكن أن يذهب هذا البلد الذي كان يضرب به المثل في التحول الديمقراطي : هل إلى دكتاتورية بورقيبية علمانية صارمة أم أنه سيذهب لحرب أهلية لا قدر الله .
على التونسيين أن لا يفقدهم الغضب اتجاه البوصلة ، فإذا كانت القوى السياسية المهترئة هي السبب ، فإن هذا لا يعني أن يوافق الشعب على أن تتكرس السلطة بيد شخص واحد ، ولكم في تجربة بن علي ذكرى يا أولي الألباب .
حي بي سي نيوز