من جمهورية بلاتو إلى إمبراطورية الناتو
يقول المؤرخ الأمريكي جون لويس غاديس إنه كان يحاول، كلما ذهب لجامعة يايل لإلقاء محاضرته الأسبوعية عن تاريخ الحرب الباردة، أن يتذكّر أن المئات من طلابه لا يكادون يذكرون شيئا من الأحداث التي يرويها لهم. ذلك أن معظم طلابه كانوا في سن الخامسة عند سقوط جدار برلين. ولهذا «لما أتحدث عن ستالين وترومان، وحتى عن ريغان وغورباتشوف، فلكأنني أتحدث عن نابليون أو قيصر أو الإسكندر»
ملاحظة تأكدت لي وجاهتها مرارا بمناسبة تزايد الحديث، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، عن منظمة حلف شمال الأطلسي وتواتر اسمها (الناتو) في الأخبار كل يوم، بل كل ساعة. وذلك من وجهين. الأول أنه لا يكاد أحد من الشباب يعرف الجواب عندما يسأل عن الحلف الذي كان يواجه الناتو في الحرب الباردة، حيث يبدو أنه لم يسبق لأحد منهم أن سمع بحلف وارسو (فرصوفيا). والثاني أن عبارة «من بلاتو إلى الناتو» لا تعني شيئا للطلاب العرب بينما هي عبارة شائعة بين الطلاب في الجامعات الأمريكية والبريطانية للدلالة على الدرس الجامعي المخصص لتاريخ الفكر السياسي من مبتدئه عند بلاتو (أفلاطون) إلى أحدث تعيّناته في إحدى أهم المؤسسات السياسية والعسكرية في العالم (الناتو). ولذلك لم يبحث راديو بي بي سي طويلا عن عنوان للبرنامج ثم للكتاب اللذين خصصهما، عام 1984، لدراسات الفكر السياسي الغربي. فقد كان «من بلاتو إلى الناتو» هو العنوان الطبيعي.
لقد صار الناتو حديث الساعة منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وسيبقى كذلك أمدا حتى بعد نهايتها. والمسألتان اللتان تبرزان من هذا الحديث هما: الرغبة السيادية المتزايدة في الانتماء للناتو؛ والتعهد الذي يقول بوتين إن أمريكا كانت قدمته لروسيا بعدم توسع الناتو شرقا.
أولا، في شرح مسارعة دول أوروبا الشرقية فور انهيار الاتحاد السوفييتي إلى طلب عضوية الناتو، يقول الكاتب السياسي وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فدرين إن من قاسى كل أنواع العنف والبلطجة لا يلام إذا هو «التمس ملاذا لدى أقرب مخفر شرطة». وإذا كان هذا ينطبق في التسعينيات على بولندا وتشيكيا والمجر ودول البلطيق، فإنه ينطبق اليوم على فنلندا والسويد.
والسبب أن بوتين نجح بأعماله العدوانية في حمل الدولتين المحايدتين على «معاملته بعكس مقصوده» كما كان يقول أجدادنا ممن درسوا في جامع الزيتونة. غزا دولة جارة بزعم إحباط محاولات انضمامها للناتو، فإذا به يحقق النقيض تماما: تعزيز الناتو بعضوين جديدين لهما قدرات عسكرية واقتصادية معتبرة، بل واستقدام العدو إلى الجوار أصلا، حيث أن الناتو سيقاسم روسيا 1300 كيلومتر هي طول حدودها مع فنلندا.
ثانيا، في محاولة فهم قصة التعهد، اطلعت في الأسابيع الأخيرة على كثير من الدراسات في الدوريات المختصة في العلاقات الدولية، فوجدت أن معظمها يشكك. ولعل أهمها ما كتبه زبيغنيو بريجنسكي أواخر 2009 من أن ما صار متاحا من الوثائق الرسمية إنما يدحض الرواية الروسية دحضا صريحا. فالذي حدث فعلا هو أن بوريس يتلسن وافق، وإن على مضض، على توسع الناتو. وقد حصل ذلك أثناء مفاوضاته مع الرئيس البولندي ليخ فاليسا في 1993.
لكن بعد مدة قصيرة، بدأت روسيا تعبر عن اعتراضها. مع ذلك، تبقى المسألة مكتنفة بالغموض. إذ يعود أصلها إلى بداية التفاوض، عام 1990، على إعادة توحيد ألمانيا. آنذاك كان في ألمانيا الشرقية، عضو حلف وارسو، 300 ألف جندي سوفييتي بينما كان في ألمانيا الغربية، عضو الناتو، 250 ألف جندي أمريكي. وافق غورباتشوف، بشرط أن تكون ألمانيا الموحدة دولة محايدة. لكن بوش وهلموت كول أصرا على انتمائها للناتو. فتم تقديم اقتراحات متنوعة لتقريب المواقف، كان أحدها اقتراح من غورباتشوف لم يسانده فيه أحد، حسبما يسجل في مذكراته، بأن تكون ألمانيا الموحدة مزدوجة العضوية في حلفي الناتو ووارسو…
كانت تاتشر متوجسة من إعادة توحيد ألمانيا، لكن رغم ذلك قالت إن هذه أسخف فكرة سمعتها في حياتي! الطريف أن المؤرخ جون لويس غاديس هو أول من اقترح الفكرة في مقال في النيويورك تايمز يوم 21 مارس 1990. والذي أخبره بهذا الثناء التاتشري هما المؤرخان البريطاني تيموثي غارتون ـ آش والأمريكي غوردون كريغ، فقد كان كلاهما شاهدا عليه. لكن ما يزيد المسألة تعقيدا أن غاديس يؤكد أن جيمس بيكر تعهد لغورباتشوف بأن «الناتو لن يتوسع إلى الشرق سنتمترا واحدا» وأن إدارة كلنتون تنكّرت لهذا التعهد، على أن ذلك لم يحصل إلا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. فهل هذا صحيح؟
المسألة محيرة فعلا. لكن يبقى أن أفضل شرح هو الذي وجدته عند المؤرختين مارغريت ماكميلان وماري ساروت. فالقصة، كما ترويانها، تؤكد صحة ما يقال عن استيطان الشيطان في التفاصيل.